ألم يكن السلام الأنسب لإيران منذ البداية؟
د. إبراهيم العرب
في عالمنا المعاصر، تتسارع وتيرة الأحداث بشكل غير مسبوق، وتتغير موازين القوى وتتشكل التحالفات في لمح البصر. لقد أصبحت الحروب تبدأ وتنتهي بمنشور إلكتروني، وتكاد تخلو من الأسرار، حيث أصبح الناس على اطلاع حتى بأدق التفاصيل وحركات الطائرات.
في هذا المشهد المتغير، تبرز صعوبة إخفاء الحقائق، لكن في المقابل، تزداد فرص الكذب والتضليل، فالحرب الإلكترونية تسير بالتوازي مع الحرب الواقعية، وكل شيء يبدو معقولاً؛ ففي فجر الأحد الموافق 21 حزيران 2025، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عبر قنوات التواصل الاجتماعي، عن انتهاء هجوم أمريكي ناجح على ثلاثة مواقع نووية إيرانية رئيسية: فوردو، نطنز، وأصفهان. وقد جاء إعلانه مصحوبًا بعبارة: “الآن هو وقت السلام!”. هذا الإعلان، الذي أعقبه تصعيد محدود ثم اتفاق لوقف إطلاق النار، يطرح تساؤلاً جوهريًا: هل كان من مصلحة إيران، كقوة إقليمية كبرى ذات ثقل في منطقة الشرق الأوسط وقدرات وثروات هائلة، أن تختار العودة إلى الحرب أم الانخراط في السلام؟وإذا قمنا باستكشاف المشهد الجيوسياسي المعقد الذي أعقب الضربة الأميركية الأخيرة، وتحليل الردود الإيرانية التي أدت إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وتداعيات ذلك على الاستقرار الإقليمي، ودور الدول المجاورة في هذه المعادلة. سنحاول الإجابة على السؤال المحوري: هل السلام، رغم ما قد يبدو عليه من تناقض في ظل هذه الظروف، هو المسار الأكثر براغماتية لإيران؟
الآثار المباشرة للضربة والرد الإيراني
لقد أحدث إعلان ترامب عن الضربة الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية صدمة مدوّية، فقد استهدفت الضربات ثلاث منشآت نووية رئيسية في إيران: فوردو، نطنز، وأصفهان، بهدف تدمير قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ووضع حدّ للتهديد الذي تشكله. وقد وصف ترامب هذه الضربات بأنها حققت نجاحًا عسكريًا كبيرًا، وأن المنشآت النووية الإيرانية دُمِّرَت بشكل كامل وتام.
تزامنًا مع هذا الإعلان، دعا ترامب إيران إلى اختيار “السلام الآن”، محذرًا من أن عدم الاستجابة لذلك سيؤدي إلى “ضربات قادمة أعظم وأسهل بكثير”. وشدّد على أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، وأن الخيار هو “إما سلام، وإما مأساة أكبر بكثير”. وقد وصف ترامب إيران بأنها متنمرة على الشرق الأوسط، ووجه الشكر والتهنئة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين النتن ياهو، مشيرًا إلى أن العمل تم كفريق واحد للقضاء على هذا التهديد الرهيب على إسرائيل. وفي خضمّ هذه الأحداث، برزت حالة من عدم اليقين والحرب المعلوماتية حول ما إذا كان قد قضي فعلاً بالكامل على المشروع النووي الإيراني أم أنه تضرر فقط. وفي الوقت الذي يؤكد فيه البعض نجاح الضربة، يشكك آخرون في ذلك، بل ويطرحون احتمالية نقل الإيرانيين لليورانيوم المخصّب لمكان آمن. هذا المشهد يعكس الطبيعة المتغيّرة للحرب في العصر الرقمي، كما تتداخل الحرب النفسية مع الحرب الواقعية، وتصبح فرص إخفاء الحقيقة أصعب، بينما تزداد بالمقابل فرص الكذب والتضليل. ففي عالم تتسرب فيه المعلومات بسرعة البرق، ويصبح الناس على اطلاع حتى بأدق تفاصيل تحركات الطائرات والصواريخ، يصبح كل شيء معقولاً. إن الأثر الأكبر لهذه الضربة، إذا ما نجحت، هو تبخر الحلم النووي الإيراني في أقل من ساعة؛ فجهد سنين طويلة من العمل الإيراني المنهك، الذي ضحّت من أجله إيران براحة شعبها وظروف معيشته، قد ذهب أدراج الرياح. هذا الواقع يضع إيران أمام مفترق طرق حاسم. لذا، لم تتأخر إيران في الرد على الضربات الأمريكية، حيث قصفت قاعدة العديد في قطر مساء الاثنين، في عملية سمتها “بشائر الفتح”. وقد أعلن ترامب لاحقاً أن طهران أبلغت واشنطن قبل شن الضربة، ما مكّن من تجنب تسجيل خسائر بشرية، حيث أشاد بعدم وقوع قتلى أو مصابين أميركيين أو قطريين. وقد تم إسقاط 13 صاروخاً من أصل 15 أطلقتها إيران، ووصف ترامب الرد الإيراني بأنه “ضعيف للغاية” ولكنه “متوقع”.
اتفاق وقف إطلاق النار وتداعياته
بعد هذا التصعيد المحدود، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اتفاق تام بين إسرائيل وإيران على وقف إطلاق نار كامل وشامل، وذلك بوساطة قطرية وأميركية. وقد دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في غضون 6 ساعات تقريباً، ومن المقرّر أن يدوم 12 ساعة ثم ستعتبر الحرب منتهية رسمياً. ووجه ترامب تهنئة إلى إسرائيل وإيران على ما وصفه بامتلاكهما القدرة على التحمّل والشجاعة والذكاء لإنهاء الحرب، مشيراً إلى أن هذه الحرب كان من الممكن أن تستمر لسنوات وتدمّر الشرق الأوسط بأكمله. وكتب ترامب: “حفظ الله إسرائيل وإيران”. وقد نقلت وكالة رويترز عن مسؤول إيراني كبير أن طهران وافقت على وقف إطلاق النار مع إسرائيل بوساطة قطرية واقتراح أميركي. كما أكّد مسؤول مطلع أن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ضَمِن موافقة إيران على اقتراح وقف إطلاق النار الأميركي في مكالمة مع طهران. وأشار مسؤول كبير في البيت الأبيض إلى أن ترامب توسط لاتفاق وقف إطلاق النار باتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأن إسرائيل اشترطت التزام طهران بعدم شن هجمات مستقبلية، مؤكّداً أن إيران أبلغت الولايات المتحدة أنها لن تشنّ مزيداً من الهجمات. من جانبه، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تصريح له إنه إذا أوقفت إسرائيل عدوانها غير القانوني بموعد أقصاه الرابعة صباحاً، فلن يكون لدى بلاده أي نية لمواصلة ردّها. وأضاف عراقجي أن “القرار النهائي بشأن وقف عملياتنا العسكرية سيتخذ لاحقاً”.
المشهد الجديد ودور دول الجوار
لقد غيّرت هذه التطورات قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. فبعد “حرب الـ12 يوماً” التي بدأت بهجمات إسرائيلية على منشآت نووية وعسكرية واغتيالات طالت قادة وعلماء، وردود إيرانية بالصواريخ والمسيّرات، ثم الضربة الأميركية والردّ الإيراني على قاعدة العديد، انتهى الأمر باتفاق وقف إطلاق نار شامل. هذا الاتفاق يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في المنطقة. حيث قال نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس إن اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل “ربما يشكل عصراً جديداً لحقبة اقتصادية من الازدهار لإيران والشرق الأوسط”، معرباً عن استعداد بلاده للتوصّل إلى “تسوية طويلة الأمد” مع طهران، تحقق السلام في المنطقة. وشدّد فانس على أن موقف الرئيس دونالد ترامب كان “واضحاً دائماً، وأنا أتفق معه، أن إيران لا يمكن أن تمتلك سلاحاً نووياً”. كما تجد دول الجوار نفسها الآن في موقف بالغ الأهمية. فمواقفها وخطواتها القادمة قد تحمي المنطقة من الانزلاق إلى الهاوية، أو تدفع بها نحو صراع أوسع. وهناك عدة خيارات مطروحة أمام هذه الدول:
1.الاصطفاف مع طرف ضد آخر: يُعدّ هذا الخيار الأسوأ الذي يمكن أن تتخذه أي دولة مجاورة. فإذا ما اصطفت مع إيران، ستكون تحت الضغط والاستهداف الأميركي. أما إذا وقفت مع الولايات المتحدة، فستُعد عدوًا لإيران، وهذا خطير للغاية. ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار قد خفف من حدة التوترات المباشرة، إلا أن الاصطفاف قد يعيد إشعالها.
2.السعي إلى التهدئة ولعب دور الوسيط: هذا الخيار هو الأكثر حكمة وبراغماتية في ظلّ الظروف الراهنة. فمن مصلحة دول الجوار إعلاء مصلحة المنطقة وسلامها على أي مصلحة أخرى. ويمكن لهذه الدول أن تلعب دورًا محوريًا في تخفيف حدّة التوترات، وفتح قنوات اتصال بين الأطراف، والعمل على إيجاد حلول دبلوماسية تضمن استقرار المنطقة. لاسيما أن تاريخ المنطقة مليء بالصراعات التي لم تجلب سوى الدمار، والآن هو الوقت المناسب للحكمة والتعقل.
وختاماً، إن المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، خاصة بعد الضربة الأميركية الأخيرة على المواقع النووية الإيرانية وما تلاها من رد إيراني واتفاق وقف إطلاق النار، يضع المنطقة أمام تحدّيات وفرص غير مسبوقة. فالسؤال “ألم يكن من مصلحة إيران منذ البدء أن تختار السلام وتتجنّب الضربة الأميركية؟” الأمر الذي يكتسب أهمية قصوى في ظلّ هذه الظروف. ولقد رأينا كيف أن الضربة والردّ المحدود عليها، ثم اتفاق وقف إطلاق النار، قد غيّرت قواعد اللعبة، وأدّت إلى تبخّر أو تأخّر الحلم النووي الإيراني الذي استثمرت فيه طهران سنوات طويلة من الجهد والموارد. ولذلك، فإن إيران، كقوة إقليمية كبرى، تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في تحديد مسار الأحداث القادمة. فبين خيار التصعيد الذي كان من الممكن أن يؤدّي إلى كارثة إقليمية، وخيار الجنوح إلى السلام الذي بدا صعبًا في البداية، بدأ يُظهر مستقبل المنطقة. وإن مقولة كيسنجر بأن الهجوم يهدف لفرض شروط التفاوض، تشير إلى أن السلام قد خرج من رحم هذه الأزمة، ولكن بشروط جديدة. أما دول الخليج، فدورها كان حاسماً في هذه المرحلة. فالاصطفاف مع طرف ضد آخر هو وصفة كارثية، بينما السعي إلى التهدئة ولعب دور الوسيط هو المسار الأكثر أمانًا وحكمة. كما أن إعلاء مصلحة المنطقة وسلامها على أي مصلحة أخرى هو السبيل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة. وفي النهاية، لا يمكننا التكهّن بما سيحمله المستقبل، ولكن ما هو مؤكّد أن الشرق الأوسط بعد 21 حزيران 2025 لن يكون كما قبله. والأمل يكمن في أن تسود الحكمة، وأن يتم اختيار مسار السلام الذي يحمي الأوطان والشعوب من ويلات الحروب؛ حمى الله وطننا وسائر الأوطان.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.