إخلاء رياض سلامة: بين العدالة والإنصاف
بقلم د. ابراهيم العرب
شكّل قرار إخلاء سبيل الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، خطوة قانونية في الاتجاه الصحيح، ليس فقط لأنه يعكس التزام القضاء اللبناني بحدود التوقيف الاحتياطي ومبدأ قرينة البراءة، بل لأنه يفتح المجال أمام تقييم متوازن لمسيرته الممتدة على مدى ثلاثة عقود في حاكمية المصرف المركزي. فلا يجوز أن يُحمَّل رجل واحد وزر انهيار اقتصادي نتج عن تداخل عوامل سياسية واقتصادية ومالية على مدى عقود، فيما تُغفل الإيجابيات التي صنعها في محطات حاسمة من تاريخ لبنان الحديث.
منذ تسلّمه منصب حاكم مصرف لبنان عام 1993، قاد سلامة سياسة نقدية هدفت بالدرجة الأولى إلى إعادة الثقة بالعملة الوطنية التي كانت قد فقدت قيمتها خلال الحرب الأهلية. فاستطاع عبر أدوات مالية مدروسة أن يوقف الانهيار الحاد، ويعيد تثبيت سعر الصرف عند مستويات مستقرة لسنوات طويلة. هذا الاستقرار النقدي لم يكن مجرد رقم على لوحة الأسواق، بل كان عاملاً رئيسياً في إعادة إنعاش الاقتصاد، واستعادة ثقة اللبنانيين بمدخراتهم، وتشجيع الاستثمارات وتحريك الدورة الاقتصادية.
لقد نجح سلامة في الحفاظ على استقرار الليرة لأكثر من عقدين، رغم الأزمات السياسية المتكررة، والحروب، والفراغات الدستورية التي عاشها لبنان. فبين عامي 2005 و2008 مثلاً، ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعه من اهتزازات أمنية وسياسية خطيرة، كان يُخشى من هروب الرساميل وانهيار العملة. غير أن السياسات النقدية الحذرة التي اعتمدها الحاكم ساهمت في تطمين الأسواق، ومنع الانهيار المالي، وحماية القدرة الشرائية نسبياً في بلد اعتاد الاضطرابات.
ولا يمكن إغفال الدور المفصلي الذي لعبه سلامة عام 2008 إبّان الأزمة المالية العالمية. ففي وقت انهارت مصارف كبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، كان لبنان من الدول القليلة التي بقيت مصارفها صامدة. فقد كان حاكم مصرف لبنان سبّاقاً في فرض قيود صارمة على توظيفات المصارف في المشتقات المالية عالية المخاطر، وهو ما حمى البلاد من تداعيات تلك العاصفة. بل على العكس، وُصفت المصارف اللبنانية حينها بأنها من الأكثر أماناً في المنطقة، وارتفعت الثقة الدولية بالنظام المالي اللبناني، وهو ما انعكس تدفقاً للتحويلات وزيادة في حجم الودائع.
كما لعب سلامة دوراً بارزاً في تعزيز القطاع المصرفي ليصبح رافعة أساسية للاقتصاد. فخلال سنوات طويلة، كان لبنان يُعرف بمصارفه القوية التي تشكل نحو ثلاثة أضعاف حجم اقتصاده. والفضل في ذلك يعود إلى سياسات رقابية صارمة، وإلى الحفاظ على نسب ملاءة عالية، جعلت النظام المصرفي قادراً على مواجهة الأزمات المتلاحقة. هذا النموذج شكّل مصدر ثقة للمغتربين اللبنانيين الذين استمروا في تحويل الأموال إلى وطنهم الأم، ما وفّر رافعة مالية استثنائية لاقتصاد صغير مثل لبنان.
كذلك، ساهم سلامة في تطوير البنية التشريعية والرقابية للنظام المالي. فقد عزّز استقلالية لجنة الرقابة على المصارف، وحرص على تحديث الأنظمة بما يتلاءم مع المعايير الدولية، بما فيها تلك المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ولطالما نال لبنان إشادة المؤسسات المالية الدولية، ومنها صندوق النقد والبنك الدوليان، على مدى التزامه بهذه المعايير.
وفي سياق دعم الاقتصاد الحقيقي، ابتكر سلامة برامج تحفيزية للقطاعات الإنتاجية. فالقروض السكنية التي استفاد منها عشرات الآلاف من الشباب اللبنانيين ما كانت لتكون ممكنة لولا دعم مصرف لبنان المباشر. كما وُضعت برامج تمويلية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهي العمود الفقري لأي اقتصاد منتج. هذه المبادرات وفّرت فرص عمل وساهمت في إبقاء عجلة الاقتصاد دائرة حتى في أصعب الظروف.
لكن مع اندلاع الأزمة المالية في 2019، وتفاقم الدين العام نتيجة السياسات الحكومية المتعاقبة، وغياب الإصلاحات البنيوية، انقلب المشهد رأساً على عقب. وقد اختُزلت المأساة المالية بشخص الحاكم، فيما الحقيقة أعمق بكثير. فالأزمة لم تكن نقدية بحتة، بل نتيجة تراكم عجز الموازنات والفساد المستشري في مختلف مؤسسات الدولة. ومن الظلم أن يُحمّل شخص واحد المسؤولية، بينما المنظومة بأكملها تتحمل تبعات السياسات الخاطئة والإهمال المزمن.
من الناحية القانونية، فإن قرار إخلاء سبيل رياض سلامة يعكس التزام القضاء بالضوابط الدستورية. فالقانون اللبناني يحدد مدة قصوى للتوقيف الاحتياطي، ولا يجوز تجاوزها تحت أي ذريعة، لأن الحرية الفردية مقدسة. كما أنّ قرينة البراءة تبقى الأساس حتى صدور حكم مبرم، وهو مبدأ لا يجوز التنازل عنه إذا أردنا أن نحافظ على دولة القانون. فالقضاء ليس أداة للانتقام أو لتصفية الحسابات، بل سلطة محايدة لا هدف لها سوى إحقاق الحق.
إن الحديث عن مسيرة رياض سلامة لا يمكن أن يقتصر على السنوات الأخيرة التي شهدت الأزمة الأكبر في تاريخ لبنان، بل يجب أن يأخذ في الاعتبار مجمل مساره الممتد لثلاثة عقود. لقد كان له فضل كبير في حماية العملة الوطنية، وفي تحصين البلاد من أزمات عالمية، وفي جعل لبنان مركزاً مالياً إقليمياً لسنوات طويلة. أما اليوم، فالمطلوب أن تتم محاكمته، كسائر أي مواطن، وفق معايير العدالة والشفافية، بعيداً عن الشيطنة أو التبرئة المسبقة.
لقد أثبت قرار إخلاء سبيله أنّ العدالة اللبنانية لا تزال قادرة على الالتزام بمبادئ المحاكمة العادلة. وهو تذكير بأن الحق لا يتحقق عبر التشهير أو كبش الفداء، بل عبر مسار قانوني رصين يوازن بين حماية المجتمع وصون كرامة الأفراد. وفي النهاية، تبقى الكلمة الفصل للقضاء، المستند إلى الأدلة والوثائق، لا إلى العواطف والانفعالات.
إن التاريخ سيذكر لرياض سلامة محطاته المشرقة، وسيذكر أيضاً الأزمات التي رافقت نهايات ولايته. لكن العدالة الحقيقية تقتضي أن يُحاكم بموضوعية، وأن يُنصف بما له وما عليه. وإخلاء سبيله اليوم خطوة أولى في هذا المسار، نحو محاكمة عادلة تحترم حقوق الدفاع وتكرّس دولة القانون.
د. ابراهيم العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.