إسرائيل تسطو على الحرم الإبراهيميّ: تهويدٌ مُمنهج؟
أحمد الصادق – رام الله
«أساس ميديا»
كيف تحوّلت مجزرة مروّعة داخل الحرم الإبراهيمي إلى نقطة انطلاق لمشروع تهويد ممنهج؟ وهل ما بدأ حين ارتكب باروخ غولدشتاين واحدة من أبشع الجرائم بحقّ المصلّين، انتهى فعلاً عند مقتله داخل المسجد؟ أم إسرائيل استثمرت المجزرة، وراكمت فوق آثارها وقائع ميدانية وتشريعية وأمنيّة لتنتزع الحرم الإبراهيمي شبراً بعد شبر؟
في 25 شباط عام 1994، الذي صادف الخامس عشر من رمضان، اقتحم المتطرّف باروخ غولدشتاين، الذي كان يعمل طبيباً في الجيش الإسرائيلي وينتمي لحركة كاخ اليمينيّة، الحرم الإبراهيميّ في الخليل، مرتدياً زيّه العسكريّ ومدجّجاً بالسلاح والذخيرة، وما إن سجد المصلّون أثناء صلاتهم حتّى فتح النار عليهم، فقتل 29 مصلّياً منهم وأصاب 129 آخرين.
قُتل غولدشتاين في المسجد خلال المجزرة، ودُفن في حديقة مائير كاهانا التذكاريّة بمستوطنة كريات أربع، القريبة من الخليل، وتحوّل قبره مزاراً للمستوطنين المتطرّفين، لكنّ ما جرى لاحقاً كان أكثر خطورة.
نقل الصّلاحيّات
على وقع المجزرة، أغلقت إسرائيل الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة في الخليل قرابة 6 أشهر كاملة، وشكّلت لجنة تحقيق في ما جرى أوصت لاحقاً بتقسيم الحرم إلى قسمين، قسم يهودي وآخر مسلم، وفرضت واقعاً صعباً على الفلسطينيّين في البلدة القديمة، ووضعت حراسات مشدّدة على الحرم، وأعطت للاحتلال الحقّ في السيادة على الجزء الأكبر منه، أي حوالي 63%، بهدف تهويده والاستيلاء عليه، وتكرّر منع الاحتلال رفع الأذان في الحرم الإبراهيمي مرّات عديدة.
تضمّ المساحة الكبرى من الحرم التي احتلّتها إسرائيل مقامات وقبور أنبياء وشخصيّات تاريخية، منها قبر النبيّ إبراهيم وزوجته سارة وقبر حفيده يعقوب وزوجته ليئة وقبر النبيّ يوسف بن يعقوب، إضافة إلى صحن الحرم، وهي المنطقة المكشوفة فيه. ووضعت سلطات الاحتلال كاميرات وبوّابات إلكترونيّة على كلّ المداخل، وأغلقت معظم الطرق المؤدّية إليه في وجه المسلمين، باستثناء بوّابة واحدة عليها إجراءات عسكرية مشدّدة، إضافة إلى إغلاق سوق الحسبة، وخانَي الخليل وشاهين، وشارعَي الشهداء والسهلة، وبهذه الإجراءات فصلت المدينة والبلدة القديمة عن محيطهما.
على الرغم من مرور 31 عاماً على تلك المجزرة، لا تبدو حدثاً تاريخيّاً انتهى، إذ لا تزال فصولها ممتدّة حتّى اليوم، ويبدو أنّها اقتربت من نهايتها مع القرار الإسرائيلي الأخير المتمثّل بنقل صلاحيّات إدارة الحرم من الأوقاف الإسلامية وبلديّة الخليل إلى مجلس مستوطنة “كريات أربع” التي دُفن فيها غولدشتاين.
كشفت صحيفة يسرائيل هيوم العبريّة في 15 تمّوز أنّ إسرائيل نقلت صلاحيّات إدارة الحرم الإبراهيمي من بلديّة الخليل إلى المجلس الديني لمستوطنة كريات أربع، معتبرة ذلك “خطوة تاريخية” غير مسبوقة لتغيير الوضع القائم في الحرم الإبراهيمي.
صدر القرار عقب اجتماع عقده وزير الأمن يسرائيل كاتس مع الإدارة المدنية ومستوطنين جرت خلاله إزالة العقبات القانونية التي منعت في السابق سحب الصلاحيّات من بلديّة الخليل والأوقاف الإسلامية، ونقلها رسميّاً إلى ما يسمّى بـ”المجلس الديني لمستوطنة كريات أربع – الخليل”.
حان وقت السّيادة!
نقلت صحيفة يسرائيل هيوم العبريّة عن شاي غليك، مدير منظّمة “بتسلمو” اليهوديّة الاستيطانيّة، ترحيبه بالخطوة، معتبراً أنّ “الحرم الإبراهيمي مسجّل في “الطابو” باسم الشعب اليهودي منذ سفر التكوين”، ومهاجماً ما وصفه بـ”القرار المشؤوم لموشيه دايان” الذي منح الأوقاف الإسلامية السيطرة على المكان، وأضاف: “آن الأوان أن يصبح الحرم مثل أيّ قبر لرجل صالح في إسرائيل: مغطّى، مكيّف، مزوّد بخدمات ومرافق”، وختم بالقول: “لقد حان وقت السيادة”.
أكّد محافظ الخليل خالد دودين، الذي يعدّ ممثّل السلطة الفلسطينية برئيسها وحكومتها في الخليل، لــ”أساس” أنّ الطرف الفلسطيني لم يُبلَّغ بأيّ قرار رسمي بهذا الشأن، وأنّ الأوقاف الإسلامية لا تزال تمارس مهامّها رسميّاً في الحرم.
لكنّ دودين استدرك أنّ ما قام به الاحتلال في السنوات الخمس الأخيرة يعدّ مقدّمة لمثل هذا القرار، إذ قامت سلطات الاحتلال ببناء مصعد في الحرم لخدمة المستوطنين، إلى جانب التصعيد اليوميّ في الاعتداءات التي توحي بفرض هذه السيطرة على الوضع الإداري، من إغلاق الباب الشرقي وإغلاق صحن الحرم ووضع أقفال على أبواب المقامات وانتشار الجيش المكثّف الذي يوحي أنّ الحرم ثكنة عسكرية، ولم يبقَ فيه أيّ معالم للعبادة.
لفت دودين إلى أنّ ما تقوم به إسرائيل هو استغلال الوضع الإقليمي والدولي البائس لإحداث تغييرات في الحرم، خاصّة أنّ المنطقة المجاورة للحرم مغلقة بشكل دائم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل، وسط ممارسة ضغوطات لتفريغ المنطقة الواقعة بين مستوطنة كريات أربع والحرم من سكّانها الفلسطينيّين.
أشار دودين إلى أنّ الاحتلال عقب مجزرة 1994 قسّم الحرم، واستولى على سوق الخضار ومحطّة الباصات، وشارعَي الشهداء والسهلة، وأغلق أكثر من 1,450 محلّاً تجاريّاً في البلدة القديمة بقرار عسكري، وأغلق منطقة تل أرميدة المحاذية ونصبوا البيوت الاستيطانية المتنقّلة فيها.
فرض أمر واقع
وصف دودين القرار بـ”الخطير جدّاً إذا ما تمّ”، مضيفاً أنّ “هذا استكمال لِما بدأ عام 1994. وفي حال تمّ هذا القرار، سيحوّل الاحتلالُ الحرمَ الإبراهيمي إلى كنيس يهوديّ، وملاذ للمستوطنين، وهذا سيكون استكمالاً لمجزرة الحرم”.
تشمل صلاحيّات الأوقاف الإسلامية في إدارة الحرم تحت إشراف بلديّة الخليل، الإشراف على المسجد وإدارته بكلّ مرافقه، بما في ذلك الحراسة والتنظيف والخدمات والترميم والكهرباء والمياه والصلاة والخطب والدروس. وفي عام 2017 أدرجت منظّمة “اليونسكو” الحرم على قائمة التراث العالمي الإسلامي، فثار احتجاج إسرائيلي واسع.
من جانبه، قال مدير الحرم الإبراهيمي معتزّ أبو اسنينة لــ”أساس” إنّ هناك تخوّفاً حقيقياً من فرض أمر واقع على الحرم مشابه لما فُرض في الحرم عقب مجزرة 1994.
أشار أبو اسنينة إلى أنّ الاحتلال يعمل بشكل دائم على القيام بحفريّات في ساحات الحرم الإبراهيمي وإنشاء تمديدات كهربائية والعبث بشبكات المياه والتعدّي على صلاحيّات البلديّة دون الرجوع إليها، وهي إجراءات تصاعدت بعد 7 أكتوبر.
أكّد أبو اسنينة أنّ مواجهة هذا القرار في حال تنفيذه ستكون من خلال المسار القضائي، عبر اليونسكو والمؤسّسات والمحافل الدولية والإقليمية، ومخاطبة كلّ الجهات لوقف هذه الجريمة نظراً لتداعياتها على الاستقرار في المنطقة، إلى جانب الدعوة وحشد الرأي العامّ لشدّ الرحال إلى المسجد للتصدّي لمحاولات تهويد ما بقي من الحرم ودعم صمود الأهالي في البلدة القديمة.
أحمد الصادق – رام الله
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.