الأزمة اللبنانية – انهيار دولة أم فرصة لإعادة البناء؟ – 1

8

بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان

ليست الأزمة اللبنانية مجرد سلسلة من الانهيارات المتلاحقة في العملة والنظام المصرفي والخدمات العامة، بل إنها في جوهرها أزمة نموذج سياسي اقتصادي بني منذ نهاية الحرب الأهلية وآن أوان استحقاقه، ومن هنا يصبح السؤال هل نحن أمام انهيار دولة يتجه إلى تفكك نهائي؟ أم أمام فرصة قاسية؟ لكن تاريخية لإعادة بناء الدولة من أساسها.

المتتبع للواقع اللبناني يدرك أنه منذ عام 2019 دخل لبنان في ما سماه البنك الدولي بـ(الانهيار المتعمد) أي أزمة لم تقع صدفة بل كانت نتيجة خيارات سياسية واقتصادية واعية استمرت لعقود نظام محاصصة طائفية زبائنية وفساد اقتصاد ريعي قائم على التحويلات والديون وتحالف عضوي بين السلطة السياسية والقطاع المصرفي، وهذا الانهيار ترجم نفسه في انهيار غير مسبوق للناتج المحلي وارتفاع الفقر إلى أكثر من نصف السكان وتآكل الطبقة الوسطى وهجرة كثيفة لأصحاب الكفاءات.

ثم جاءت سلسلة الصدمات التي جعلت الأزمة بنيوية لا ظرفية من الانهيار المالي والمصرفي، جائحة كورونا، انفجار مرفأ بيروت المروع عام 2020 الذي دمر قلب العاصمة وقتل أكثر من مئتي شخص وجرح الآلاف وشرد عشرات الآلاف من منازلهم دون أن توازيه حتى اليوم أي عملية محاسبة حقيقية رغم توقيفات وتحقيقات متعثرة وآخرها توقيف مالك السفينة المرتبطة بشحنة نيترات الأمونيوم في بلغاريا عام 2025 في خطوة قد تعيد بعض الزخم لمسار العدالة.

إلى ذلك انزلق البلد منذ أكتوبر 2023 إلى حرب مدمرة بين إسرائيل وحزب الله امتدت 14 شهرا، تخللتها غارات كثيفة ودمار واسع في الجنوب والبقاع وحتى في بعض البنى التحتية الوطنية، وتقدير البنك الدولي لحجم أضرار هذه الحرب وحدها يشير إلى خسائر اقتصادية تقدر بنحو 14 مليار دولار منها 6.8 مليارات أضرار مادية و7.2 مليارات خسائر إنتاجية، مع حاجة إلى نحو 11 مليار دولار لإعادة الإعمار والتعافي في بلد سبق أن كان في حالة انهيار قبل الحرب.

على مستوى الدولة يمكن القول إن مؤشرات الانهيار واضحة، مؤسسات رسمية عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، كهرباء متقطعة، عملة فقدت معظم قيمتها، جهاز قضائي مثقل بالتجاذبات والضغوط السياسية، قطاع مصرفي متجمد يحتجز أموال الناس ويطبق قصة شعر غير معلنة على الودائع، إدارة عامة مشلولة وحدود جنوبية تحولت إلى ساحة حرب مفتوحة لعشرات الأشهر، تقارير دولية تحدثت بصراحة عن تفكك أركان الاقتصاد السياسي الذي حكم لبنان بعد الطوائف، وعن تآكل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين.

ومع ذلك فإن لبنان ليس دولة منهارة بالكامل على الطريقة الصومالية، مثلا فهناك جيش لا يزال متماسكا، وحد أدنى من انتظام إداري وقدرة ملحوظة على الصمود الاجتماعي عبر شبكات العائلة والقرابة والدعم الأهلي والاغترابي، لكن هذا الصمود هو سيف ذو حدين، فهو من جهة يمنع الانهيار الكامل ومن جهة أخرى يسمح للطبقة السياسية بتأجيل الإصلاحات، إذ يبقي المجتمع في حالة شبه حياة فلا يموت النظام ولا يتعافى.

في قلب هذه المفارقة يبرز مشهد الطبقة الحاكمة، فبعد أكثر من عامين من فراغ رئاسي، ظل البرلمان عاجزا عن انتخاب رئيس وفشل في تمرير الإصلاحات المطلوبة للحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي، رغم التوصل إلى اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء منذ 2022، أحد أبرز المفاوضين اللبنانيين مع الصندوق صرح عام 2024 بأن البلاد ليست قريبة من تنفيذ الشروط المطلوبة بسبب غياب التوافق واستمرار حالة الحكومة المستقيلة وامتناع البرلمان عن التشريع الجدي.

غير أن موازين القوى هذه شهدت بداية تحول في 2025، فقد أفرزت الضغوط الداخلية والدولية إلى جانب تداعيات الحرب مع إسرائيل واقعا سياسيا جديدا توج بانتخاب رئيس جديد للجمهورية هو جوزيف عون، وتكليف القاضي السابق في محكمة العدل الدولية نواف سلام رئاسة الحكومة، وتشكيل حكومة وصفت بأنها أقرب إلى حكومة مهمة تركز على إعادة الإعمار والإصلاحات والالتزامات الدولية وإن ظلت خاضعة لمنطق المحاصصة وحسابات القوى التقليدية.

علما بأن هذه الحكومة رغم كل ما يمكن أن يقال عن تركيبتها تحمل في طياتها مفارقة هي من جهة محاولة لإعادة تدوير النظام عبر وجوه قديمة جديدة ومن جهة ثانية تعبير عن إدراك النخبة الحاكمة أن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما كانت عليه، وأن الوصول إلى أموال إعادة الإعمار سواء من البنك الدولي الذي قدر كلفة التعافي بـ11 مليار دولار، أو من صندوق النقد الذي يجري التفاوض معه على برنامج جديد، أو من الدول المانحة، لن يتم من دون حد أدنى من الإصلاحات البنيوية.

هنا تحديدا يصبح السؤال هل يمكن تحويل الانهيار إلى فرصة لإعادة البناء أم أن كل حديث عن الفرصة ليس سوى تجميل لمسار سقوط طويل؟

ولكي تكون الأزمة فرصة لا بد من توافر مجموعة شروط مترابطة، أول هذه الشروط هو الاعتراف العلني بموت النموذج القديم لأنه حتى اليوم لا يزال جزء واسع من المنظومة يتصرف وكأن الأزمة عابرة، يراهن على نهاية الحروب وعودة التدفقات المالية الخليجية أو الاغترابية لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد الريعي من دون إعادة هيكلة حقيقية للقطاع المصرفي ولا إصلاح ضريبي عادل ولا إعادة نظر في حجم الدولة ووظائفها وطريقة إنفاقها، أي إعادة إعمار لا تمر بإعادة تعريف أولويات الدولة ستتحول إلى عملية ترقيع عمراني فوق أرض سياسية متهالكة.

يتبع غداًِ

اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.