الكويت والعراق والخور.. “عمّك أصمخ”

9

نايف سالم – الكويت

«أساس ميديا»

تولي الكويت أهميّة كبرى واستراتيجيّة لعلاقاتها مع دول الجوار، وعلى رأسها العراق، بيدَ أنّها تُدير الأذن الطرشاء للمناورات والألعاب السياسية الداخلية في العراق بشأن مصير اتّفاق تنظيم الملاحة في خور عبدالله، على قاعدة “عمّك أصمخ” (مثل كويتيّ يُشير إلى تعمّد اللامبالاة وعدم الاهتمام، والأصمخ هو الأصمّ).

على الرغم من محاولات حثيثة خلال الأشهر الماضية، لم تجد الحكومة العراقية حلّاً لأزمة الاتّفاق الذي وقّعه مع الكويت في 2012، وصُدّق عليه وفق الأصول حكوميّاً وبرلمانيّاً في 2013، ثمّ نُقض قضائيّاً في 2023، بتحرّك يُقال إنّه يحمل بصمات إيرانية.

لم يكن الاتّفاق الذي يُنظّم الملاحة في خور عبدالله، الواقع في شمال الخليج العربي بين جزيرتَي بوبيان ووربة الكويتيّتَين وشبه جزيرة الفاو العراقية، جزءاً من الخلافات الكثيرة بين البلدين، ضمن ملفّات عالقة منذ أيّام الغزو العراقي للكويت، الذي حلّت ذكراه الـ35 مطلع شهر آب الجاري.

كان من المفترض أن يكون “الخور” خارج تلك الملفّات، التي يأتي على رأسها ملفّ استكمال ترسيم الحدود البحرية إلى ما بعد العلامة 162.

لكنّ ما جرى فاجأ الكويت التي حاولت مرّة جديدة إبداء حسن النيّة وتطبيق سياسات حسن الجوار، لكنّها لم تجد آذاناً صاغية في المقلب الآخر.

ما قصّة قمّة بغداد؟

بين أيلول 2023 الشهر الذي أصدرت فيه المحكمة الاتّحادية في العراق حُكمها بعدم دستوريّة التصديق على الاتّفاق وبين تمّوز 2025، مرّ نحو عامين شهدا محاولات لاجتراح حلول، كان من أكثرها جدّيّة قبل أشهر خطوة مزدوجة من رئيسَي الجمهورية والحكومة في العراق بتقديم طعنين على قرار المحكمة، والاستناد فيهما إلى موادّ في الدستور تؤكّد احترام حسن الجوار والتزام الاتّفاقات والمعاهدات الدولية، لما لِنَقضها من انعكاسات كبرى على علاقات العراق الدولية.

لكنّ كلّ ذلك ذهب أدراج الرياح، مع القرار الذي اتّخذته رئاسات الجمهوريّة والحكومة والبرلمان في العراق الشهر الماضي بإعادة ملفّ الاتّفاق إلى مجلس النواب لحسم مصيره، ربطاً بقرار المحكمة الاتّحادية.

قرأت الكويت في الخطوة العراقية الأخيرة جزءاً من سلسلة المناورات الداخلية، خاصّة أنّها تأتي في “الموسم الانتخابي”، الذي من شبه المستحيل أن يحصل فيه الاتّفاق على تأييد نيابيّ، بل العكس تماماً هو المُرجّح.

يقول البعض إنّ الخطوة العراقية جاءت ردّاً على ما جرى في القمّة العربية الأخيرة التي استضافتها بغداد في أيّار الماضي، وروّج مسؤولون عراقيون آنذاك أنّ الكويت لعبت دوراً في خفض مستوى التمثيل فيها، أو بالحدّ الأدنى أنّ استياءها من العراق ساهم في قرارات دول كثيرة بعدم رفع مستوى التمثيل في القمّة، على اعتبار أنّ سلوك العراق الخارجي أحد الملفّات الأساسية الواقعة تحت المجهر الخليجي والعربي.

نسف 400 اتّفاق

أيّاً يكن الأمر سياسيّاً، تؤكّد الوقائع القانونية أنّ موقف الكويت سليم تماماً، وأنّ الاتّفاق مُصدَّق عليه كويتيّاً وعراقيّاً ودوليّاً، وفق الأصول، وأنّ التراجع العراقي ليس له أيّ سند قانوني، بل له انعكاسات كبيرة جدّاً، ليس على العلاقات مع الكويت، وإنّما أيضاً مع دول أخرى.

هذا ما عكَسَه بوضوح رئيس المجلس الأعلى للقضاء في العراق فائق زيدان الذي حذّر من “نسف منظومة الاتّفاقات الدولية التي أبرمها العراق خلال العقدين الماضيين”. ففي مقال لافت له نشرته جريدة “الشرق الأوسط”، في 23 تمّوز الماضي، بعنوان “أمواج خور عبدالله بين قرارين متناقضين”، قال زيدان: “إذا ما اعتُمد شرط أغلبيّة الثلثين الذي تبنّاه القرار الثاني (للمحكمة الاتحادية) في سنة 2023، فإنَّ ذلك ينسحب تلقائيّاً على أكثر من 400 اتّفاق صُدّق عليها سابقاً بالأغلبيّة البسيطة، فتُعتبر جميعها باطلة لعدم استيفائها النصاب الجديد”، ونبّه إلى أنّ قرار المحكمة “ألغى استقرار المراكز القانونية الناشئة عن اتّفاق دوليّ مودَع لدى الأمم المتّحدة ويُرتّب مسؤوليّة دولية محتملة على العراق”.

كان “كبير قضاة العراق” يُشير بذلك إلى السند الذي ارتكزت عليه المحكمة الاتّحادية في اعتبار الاتّفاق غير دستوريّ، وهو أنّ التصديق عليه في مجلس النواب لم يتمّ بغالبيّة الثلثين، وإنّما بالغالبية المُطلقة. وهذه الحجّة سقطت لسببين رئيسين كُشفا على لسان مسؤولين عراقيين:

1 – أنّ القانون الذي يفرض التصديق بالثلثين على الاتّفاقات، صدر في 2015، أي بعد إقرار الاتّفاق بسنتين على الأقلّ، وبالتالي لا يسري عليه.

2 – أنّ المحكمة الاتّحادية نفسها سبق أن رفضت طعناً مشابهاً قُدّم لها في نهاية 2014 “لعدم استناده إلى أساس دستوري أو قانوني، وبذلك ثبّتت شرعيّة الاتّفاق داخليّاً، وحَمَته من أيّ طعن لاحق”، وفق ما جزم زيدان في مقاله.

رقصة التّانغو

بين صدور الحُكم وما تلاه من لقاءات ومباحثات وحوارات، انتهجت الكويت سياسة التبريد والتهدئة، على قاعدة أنّ كلّ المناورات العراقية هي شأن داخلي، وأظهرت التزاماً حديديّاً وقدرة فائقة على عدم الانجرار للسجالات، فلم يصدر أيّ موقف رسميّ ردّاً على إساءات عراقية من مسؤولين ونوّاب، ولم تتراجع الكويت في أيّ ملفّ عالق، فواصلت استضافة محادثات اللجنة المشتركة لاستكمال ترسيم الحدود البحرية، وسافر مسؤولوها إلى العراق لحضور اجتماعات مماثلة.

تُدرك الكويت أنّ الملفّات العالقة مع العراق يحتاج حلّها إلى سنوات طويلة، وأنّ الماضي لا يُمكن الخروج من تبعاته ونسج مسارات أفضل للأجيال، دون وجود شريك في الطرف الآخر.

رقصة التانغو القائمة على الانسجام والتناغم والتوازن تحتاج إلى شريكين، وما دام الشريك الثاني غير جاهز، فلا خيار أمام الأوّل سوى العمل بالمثل الكويتي القائل “عمّك أصمخ”، بانتظار مرور “الموسم الانتخابي” الذي يُعوَّلُ عليه لنقل بلاد الرافدين إلى مرحلة أكثر استقراراً، ربطاً بأحداث المنطقة، لا سيما اضمحلال نفوذ إيران وانكسار محورها.

نايف سالم – الكويت

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.