تركيا – مصر: هل ترسم البوارج خرائط النفوذ في شرق المتوسط
بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
تمدّدت سياسة إسرائيل التي تقوم على أنّ القوّة وحدها هي من ترسم خارطة طريقها في الإقليم باتّجاه مناطق جديدة وصلت إلى عمق الخليج العربي. فهل تتمسّك أنقرة والقاهرة بالرهان على قدرات التحكّم بالتصعيد؟ أم نرى حالة من الاصطفافات الإقليميّة الجديدة التي ستكون أبعد من تمرير رسائل رفع مستوى الجهوزيّة والتلويح بقدرات الردع عند اللزوم؟
لا تعني المناورات العسكريّة بين مصر وتركيا تشكيل تكتّل عسكري موجّه ضدّ إسرائيل، ولا تحمل أيّة نيّة مصريّة مباشرة للتصعيد مع قبرص اليونانيّة أو اليونان، فهما شريكان وحليفان للقاهرة في خطط الطاقة والتجارة وأمن شرق المتوسّط.
من المبكر أيضاً الذهاب إلى استنتاج أنّ المناورات العسكريّة التركيّة المصريّة تجري في شرق المتوسّط، لكنّ صداها يمتدّ إلى نيقوسيا وأثينا والعمق الإسرائيليّ، وأنّ تل أبيب هي التي تساهم اليوم في بناء التكتّل العسكريّ التركيّ المصريّ الذي سيفتح قنوات حوار وتواصل مع التحالف السعوديّ – الباكستانيّ.
رسائل تحسين العلاقات
المناورات التي تجري بعد 13 عاماً من الجمود لا تحمل أيضاً إشارات علنيّة إلى عدوّ مشترك، ولا تذهب في اتّجاه بناء محور عسكريّ ضدّ أيّ دولة بعينها. فحتّى مع تعقيد مشهد تفاعل الأحداث الإقليميّة وتغيّر التحالفات، فإنّ احتمال التحاق نيقوسيا وأثينا بالجناح الإسرائيليّ غير قائم اليوم بالنسبة للقاهرة على الأقلّ.
الحدث البحريّ التركيّ-المصريّ أقرب إلى رسائل تحسين علاقات ثنائيّة بعد فترة طويلة من البرود، مع أهداف تبادل الخبرات العسكريّة ورفع مستوى الجاهزيّة القتاليّة، والمزيد من التعاون والتنسيق في مجالات التصنيع الحربيّ المشترك، خصوصاً أنّها تجري خارج مناطق صراع النفوذ وترسيم الحدود البحريّة في شرق المتوسّط.
ما هي القيمة الاستراتيجيّة لأيّ خطّ تعتمده أنقرة والقاهرة بين أنطاليا التركيّة والعلَمين المصريّة؟
لا تتحرّك السفن عشوائيّاً في شرق المتوسّط. فلكلّ منها، سواء كانت تجارية أو للتنقيب أو بوارج حربيّة، دورها في هذا البحر المحموم، ولكلّ إبحار رسائله التي تصل إلى أطراف معنيّة وغير معنيّة، بحسب التوجّهات والاتّجاهات. من هنا، لا يمكن توصيف تحرّك البوارج الحربيّة المصريّة والتركيّة بأنّه تمرين عسكريّ عابر، بل هو مؤشّر إلى تحوّل جيوستراتيجيّ هادئ تُعاد من خلاله صياغة تقاسم النفوذ والمصالح في شرق المتوسّط، حيث لم تعد الخرائط تُرسم فقط في المكاتب، بل على سطوح البحار وفي أعماقها.
هل تفتح المناورات التركيّة – المصريّة الأبواب لتحالفات جديدة تعيد ترتيب الأوراق في المنطقة، وتقدّم معها معادلة ثنائيّة – إقليمية شاملة، ذات حسابات وتطلّعات تختلف جذريّاً عن سابقاتها؟ وهل تنجح أنقرة والقاهرة في بناء منصّة مشتركة يلتحق بها آخرون من ليبيا وسوريا ولبنان، وربّما من فلسطين، وتُترجم إلى واقع سياسيّ وأمنيّ واقتصاديّ إقليميّ مستدام يعيد بناء خطوط التواصل والاتّصال في شرق المتوسّط، ويحوّل منافسات المنطقة إلى شراكات بنّاءة؟
حاول الاتّحاد الأوروبيّ أن يلعب الورقة القبرصيّة ضدّ تركيا، فدخلت أميركا وإسرائيل على الخطّ لانتزاع الكثير من الأوراق من يده. تل أبيب هي اليوم صاحبة النفوذ الأبرز في قبرص اليونانيّة بقرار أوروبيّ – أميركيّ. من هنا، لا يمكن للقاهرة تجاهل ما تتناقله التقارير عن نقل إسرائيل لأنظمة صاروخيّة ورادارات متطوّرة إلى قبرص اليونانية، حتّى لو كانت العلاقات المصريّة – القبرصيّة جيّدة. لا تقتصر التأثيرات على تركيا وحدها، بل قد تمسّ مصالح مصر الاستراتيجيّة في الإقليم.
في هذا السياق، لا يمكن اعتبار هذه المناورات الهدف النهائيّ لمسار ومستقبل العلاقات التركيّة – المصريّة. بات الطموح أكبر وأوسع من ذلك، وسط لعبة المتغيّرات والتوازنات الإقليميّة التي تحاول إسرائيل فرضها على المنطقة تحت شعار “الشرق الأوسط الجديد”. ما بعد المناورات العسكرية لا يقلّ أهمّيّة عن المناورات نفسها.
مصر وإعادة التّقويم
ليس توقيت المناورات ومكانها صدفة. وليس الهدف استعراض قوّة، بل رسم توازنات جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما تفعله إسرائيل على أكثر من جبهة تعني مصر وتركيا مباشرة.
دخلت العلاقات بين القاهرة وأنقرة في حالة شلل شبه كامل منذ عام 2013، نتيجة تصعيد سياسي مصحوب بتباين في المواقف حيال ملفّات إقليميّة عالقة، يتقدّمها الملفّ الليبيّ، وتوازنات القرن الإفريقيّ، والخلافات الحادّة حول وجود الإخوان المسلمين في تركيا ونشاطاتهم، إلى جانب تباعد في التعامل مع ملفّات سوريا والنزاعات البحريّة في شرق المتوسّط. جعل كلُّ ذلك البلدين في حالة مواجهة غير مباشرة ضمن تحالفات متباعدة.
بموازاة التحوُّلات الإقليميّة، لم تكن القاهرة بمنأى عن إعادة تقويم موقعها في معادلة شرق المتوسّط، إذ اتّجهت نحو ترسيخ حضورها كقوّة إقليميّة فاعلة تسعى إلى صياغة توازنات جديدة، لا الانخراط فقط في ترتيبات مفروضة. فلم يعد محصوراً الدور المصريّ في المنطقة بالاستجابة للضغوط، بل بات جزءاً من مشروع أوسع لتثبيت الاستقرار وإعادة تموضع التحالفات.
لذلك من بين ما أوصل العلاقات التركيّة – المصريّة إلى ما هي عليه اليوم:
تفكّك منصّة شرق المتوسّط للطاقة، تراجع مشروع خطّ “إيست ميد” لتصدير الغاز الإسرائيلي، تباعد القاهرة وتل أبيب في غزّة، تقدُّم منطق المصالح على الأيديولوجيات ووصول القناعات التركيّة – المصريّة إلى ضرورة بناء منظومة علاقات جديدة تقوم على تقاطع المصالح لا تضادّها.
المناورات البحرية المشتركة، بهذا المعنى، هي خطوة أخرى على خطّ التنسيق الاقتصاديّ والسياسيّ بوسائل عسكريّة. ما بدأ كمناورة بحريّة قد يتحوّل إلى خطّ إمداد طاقويّ، ثمّ إلى منصّة تفاهم إقليميّ، وربّما إلى نموذج جديد لتحالفات ما بعد الاصطفاف التقليديّ.
في ظلّ استمرار إسرائيل في إعادة رسم الجغرافيا السياسيّة للمنطقة بالقوّة، يبدو أنّ الضرورة، لا المجاملة، هي التي تقود أنقرة والقاهرة نحو تنسيق أعمق، في مواجهة ما تعتبرانه تهديداً مباشراً لتوازنات الإقليم ومصالحهما الحيويّة.
المناورات خطوة محسوبة في مشهد إقليميّ تتفاقم مشاكله بما يتعارض مع حساباتهما ومصالحهما. تمسّ التهديدات الإسرائيليّة مباشرة أمنهما القوميّ والإقليميّ، وما كان مستبعداً قبل سنوات بات اليوم ممكناً بل وضروريّاً.
د.سمير صالحة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.