جوزاف عون: كلام الدولة في زمن الالتباس
بقلم دافيد عيسى
في مرحلةٍ يتقدّم فيها الضجيج على الموقف، اختار رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أن يقول ما يجب قوله بلا مواربة.
فمواقفه الأخيرة، كما عبّر عنها خلال استقباله وفدًا إعلاميًا، جاءت بمثابة رسمٍ واضحٍ لخطٍّ سياسي يضع حدًا للخلط المتعمّد بين الحرية والفوضى، وبين السيادة والمزايدة.
في ملف الإعلام، وضع الرئيس عون النقاط على الحروف.
فالحرية، كما شدّد، ليست رخصةً مفتوحةً للإساءة، ولا مظلّةً للتخوين، ولا وسيلةً لاتهام الناس بلا دليل.
ومن هنا كان موقفه حاسمًا حدود حرية أي فرد تقف عند حدود حرية الآخر.
والأهم أن وظيفة الإعلام الحرّ والحقيقي هي تصويب الرأي العام لا تضليله، وبناء الوعي لا شحن الغرائز.
وذكّر بأنه لم يرفع يومًا دعوى على صحافي، لأن الدولة القوية لا تخشى النقد، لكنها ترفض الفوضى المقنّعة.
سياديًا، قطع رئيس الجمهورية الطريق على حملات التشويه التي طالت ملف ترسيم الحدود البحرية مع قبرص.
فأعاد الملف إلى مرجعيته الدستورية والقانونية، مذكّرًا بأن ما جرى هو تثبيت لما أُقرّ عام 2011، واعتماد لمبدأ الخطّ الوسط المعترف به دوليًا، وبأن هيئة التشريع والقضايا أكدت عدم وجوب إحالة الاتفاق إلى مجلس النواب. وبذلك، سقط خطاب المزايدين ومحاولات تصوير الدولة كأنها تفرّط بحقوقها.
وفي ما يتصل بالحدود مع سوريا، قدّم عون مقاربةً عمليةً بعيدةً عن الاستثمار السياسي، معلنًا جهوزية لبنان للترسيم فور توافر الإرادة لدى الجانب السوري، مع اعتماد مسار تدريجي يؤجَّل فيه ملف مزارع شبعا إلى المرحلة الأخيرة.
وهي مقاربة واقعية تهدف إلى الإنجاز، لا إلى إبقاء الملفات رهينة الشعارات والمزايدات.
أمنيًا، جاء كلام رئيس الجمهورية الأكثر حساسية وجرأة.
سأل بوضوح: هل لبنان قادر على تحمّل حرب جديدة؟ سؤال يضرب في صلب الخطاب الشعبوي الذي يهوّن كلفة الحروب ولا يتحمّل نتائجها.
ولم يكن هذا السؤال تعبيرًا عن تراجع، بل عن مسؤولية وطنية كاملة، تنطلق من معرفة دقيقة بقدرات البلد وحدودها.
ومن هذا المنطلق، شدّد على أن التفاوض ليس خيانة ولا ضعفًا، بل خيار تلجأ إليه الدول عندما تصل المواجهة إلى طريق مسدود، خصوصًا في ظل عدو يحتل أرضًا لبنانية ويواصل اعتداءاته.
وفي هذا السياق، كان موقفه واضحًا لجهة دور الجيش اللبناني لا اختزال لدوره، ولا مقايضة عليه، ولا ربط للدعم الدولي له بملف واحد. فالجيش هو عمود الاستقرار، وقدّم شهداء وتضحيات جسيمة في سبيل تثبيت سلطة الدولة.
أما قرار حصرية السلاح، فقد اتُّخذ، وهو يُنفَّذ تدريجيًا وفق معايير تقنية دقيقة، لا وفق منطق الاستعراض أو التحدي.
وحين طُرح الحديث عن «ورقة موقّعة» تُكرّس التزامات سياسية في ملف الاستراتيجية الدفاعية، جاء ردّ الرئيس قاطعًا: «فلينشروها إذا كانت موجودة».
موقف يقطع الشك باليقين، ويؤكد أن المرجعية الوحيدة هي خطاب القسم، وأن السلاح لا يكون إلا بيد الدولة.
في الخلاصة، لا يقدّم جوزاف عون خطابًا شعبويًا، ولا يساير الالتباس القائم.
بل يصرّ على إعادة الاعتبار لمنطق الدولة، حيث الحرية مسؤولية، والسيادة قرار، والجيش عماد، والحرب خيار يُحسب قبل أن يُرفع كشعار.
وفي زمنٍ اختلطت فيه الأصوات، يبدو أن ما يقوله رئيس الجمهورية ليس مجرد موقف، بل كلام الدولة حين تقرّر أن تتكلم.
دافيد عيسى
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.