حسين الزيداني فرادة التركيب ونغمية الموسيقى في «ليس إلا …»

56

د. يحيى عبد العظيم

شاعر وأكاديمي وصحافي مصري

جامعة بيشة ـ المملكة العربية السعودية

 

في العام 2005م؛ كان هناك حوار يدور على الهاتف بيني وبين النقادة العربي المصري الكبير الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب الحائز على جائزة الملك فيصل في الأدب، وكانت هناك عملية قرصنة أمريكية؛ تطرق حديثنا إلى الشعر، فأسمعته مقطعا من قصيدة لي، فكان سؤاله المباغت:

ـ أين هذا الشعر؟!

ـ قلت له: عندي.

ـ قال: هل نشرته؟

ـ قلت: لا؟

ـ قال: لماذا؟

ـ قلت له مشغول بالانتهاء من رسالتي للدكتوراه.

ـ قال: هاته نسخة ورقية، وأخرى على سي دي.

وقتها كان الدكتور عبد المطلب؛ يرأس تحرير سلسلة «أصوات أدبية» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية. جمعت الديوان فعلا، والذي يحمل عنوان: «زفرات»، وهاتفته، فكان الاتفاق على لقائه بمكتبه في كلية الآداب ـ جامعة عين شمس.

ذهبت إليه، وجلسنا جلسة يسودها الود، وفي طريق خروجنا من الجامعة، وأمام المصعد للنزول من الكلية؛ قال لي: هو مين اللي بيكتب شعر عمودي غيرك أنت وأستاذك ـ يعني الشاعر الكبير الأستاذ الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم «أبو همام» رحمات الله تعالى عليه ـ فقلت له: في وقت سابق؛ كان القائمون على منابر النشر لا ينشرون إلا شعر التفعيلة، وإذا نشروا قصيدة عمودية، فمن باب المجاملة، والآن تبدلت الحال؛ إذ أصبح كثير من القائمين على منابرنا الثقافية لا يستطيعون أن يقيموا بيتا واحدا من الشعر، ويظهر عيهم وعجزهم عند قراءته، فأصبحوا لا ينشرون شيئا إلا ما يوضع تحت اسم «قصيدة النثر»، وإذا نشروا قصيدة تفعيلة؛ كان ذلك من باب المجاملة، وللمصادفة؛ كان سفر الدكتور محمد عبد المطلب إلى الإمارات العربية المتحدة بعد لقائنا مباشرة لحضور مؤتمر دولي عن قصيدة النثر، فصرح بخبر صادم؛ كان عنوانه: «يبدو أن قصيدة النثر ولدت، وهي تحمل في طياتها عوامل موتها».

ولأننا نقدم ديوانا خليليا؛ يمتاز بفرادة تراكيبه، وانسيابية أسلوبه، وسلاسة لغته، فضلا عن نغمية موسيقاه التي جاءت عليها قصائده ما بين بحور ذات تفعيلة مركبة كالطويل والبسيط والخفيف، وأخرى على بحور ذات تفعيلة متكررة كالكامل والوافر وغيرهما، فإن الشاعر حسين أحمد الزيداني يقدم لنا ديوانه الثاني «ليس إلا…» بعد ديوانه الأول «تآويه» الصادر في العام 2016ه.

ولأن الشاعر ابن بيئته، فإن الزيداني هو شاعر ألمعيٌّ؛ مولدا ونشأة وإقامة في محافظة «رجال ألمع»؛ تلك المحافظة التي تقع في منطقة عسير ـ جنوب المملكة العربية السعودية، فقد أثَّرت طبيعتها، وأثْرت ثقافته ومخيلته، وفكره؛ هذا المكان الذي يخلب لبَّك جمالُ طبيعتها، وتتشبع روحك من طزاجة خضرتها، وطراوة نسيمها.

في هذا المكان البديع؛ كانت نشأة شاعرنا حسين أحمد الزيداني، فأنتج قصائد؛ تدب في حروفها الحياة، وتهيم في خمائلها ترانيم الروح؛ ليخرج لنا ديوانه «ليس إلا …» مقسما إلى أجزاء ثلاثة؛ لكل جزء منها عنوانه المستقل الذي يشير به إلى مضمونه، فكانت على التوالي:

ـ مدارات عشق، ويضم ست عشرة قصيدة.

ـ مروا على مرآة الروح، ويحتوي على عشر قصائد.

ـ تضاريس تُقرأ مرتين، ويشتمل على سبع قصائد.

ورغم أن قصائد الديوان؛ كتبت باللغة العربية الفصحى، فإن الزيداني يصدمنا باختياره عنوانا باللغة الدارجة (العامية) لإحدى قصائده، والتي كتبها حبا في والده الذي بلغ عامه المئة، فحملت عنوان: «يا بَهْ»، ومعناها «يا أبي»؛ يقول فيها:

بك استعلى، وقد جافى احتجابهْ  علوٌّ، لا يطال ولا يشابهْ

وناجى فيك أزمنةَ انتصارٍ                   ووشَّى منك مزهوًّا خطابه

يشعرك نغم الوافر ( مفاعلتن مفاعلتن فعولن) بهذه الطربية الخليلية التي تملك عليك جوانحك في موضوع؛ يمس شغاف قلوبنا، ويلهب تلافيف أرواحنا؛ إنه الأب الذي لا يقف أحد أمامه إلا محبا موقِّرا خاصة إذا كان ذلك الأب الحاني الذي يربي أجيالا؛ تحمل شعلة الفكر والإبداع والأدب،

ونادى عزمك الوثَّاب قلبٌ                   إلى هام العلى أشقى ركابَهْ

وبكل أدب جمٍّ من ابن محب لأبيه؛ يعتذر شاعرنا؛ إذا كان حرفه لم يسعفه في أن يذكر مناقب أبيه كلها:

فعذري؛ إذ تقاصر فيك حرفي       بأنك في العلى كالشمس يا (بَهْ)

ليذكرنا بهذه النهاية بتلك الكلمة العامية بالخرجة في الموشحات الأندلسية التي كان أصحابها لا يختمونها إلا بكلمة عامية.

******

يلفتنا ديوان الزيداني «ليس إلا …» إهداؤه المكون من ثلاثة أبيات على مجزوء الوافر:

إلى أمي ترتل كل يومٍ قصة للصبر لم تُسبقْ

إليها رغم ما اقترفت بها الأمواج لم تغرقْ

إلى أمي لأعبر بابتسامتها مخاوف عمري المأزق.

هذه العتبة التي لا يمكن أن نغفلها في مسيرة شاعرنا المحب لأمه؛ الوفي لأبيه؛ لكنها هنا أمه التي يتغلب بها وبحبها له على كل مصاعب الحياة؛ ليعبر بها من خلال هذه الابتسامة الصافية كل صعب، فيطوي فيافي العمر طيا، ويشمر ساعديه؛ ليخرج من وهاد الحياة إلى نعيم رجال ألمع وجنانها الخضراء، فها هو:

يرنو إلى الأفق الغافي بسكرته      فينسج الآه ما يومي به الأفقُ

حتى تضج به خيبات مغترب       نحو الأفول وقد أزرى به الشفقُ

فمن وهدة التعب إلى بسيط الحياة وزنا ومعنى؛ يخرج الزيداني بابتسامة أمه إلى نعيم الحياة؛ رغم ما به من تعب، لتأخذنا قصيدته «ليت» إلى بحر الكامل متمنيا لو أنه ما التفت إليها حين حدثته بكل دلالها، وبجمال أنوثتها:

يا ليتني إذ أقبلت نحوي تزف       حضورها الزاهي وتهمس ما التفتُّ

أو أنني إذ أيقظت سر الأنوثة

في حديث دلالها أغمضت آمال الظنون وما سكرت

إنه سُكْر الغرام، وتيه الوجد الذي كان يتمنى لو أنه ما دخله، ولا اهتزت ضلوعه له؛ لكنه سرعان ما يباغتنا في قصيدته «يقين» التي جاءت على بحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) بهذا المطلع الذي يحمل الديوان عنوانه:

ليس إلا ما قاله أيوب   حين ضجت بما يعاني الدروب

وعلى مشجب الخيانة باتت         تتوالى مصائب وكروب

لقد ساعدت الزيداني دراسته للغة العربية في جامعة الإمام التي تخرج فيها العام 1414 هـ في أن تخرج لغته سليمة؛ لا تجد فيها عوجا ولا أمتا؛ خالية من الابتذال؛ عالية القيمة، قيمة التصوير، خصيبة المعاني، جزلة العبارة، وما بين عشق الروح، وعشق الحبيبة، يتجلى عشق الوطن؛ حين يترنم به في قصيدته «خلود» التي يأخذنا فيها باستهلال مغاير للمعهود من القصائد الخليلية:

وبأي معنى للخلود أزفُّهُ ومدى الخلود مطرَّزٌ ببهائهِ

وطنٌ وأحلام البياض ترومه كي تستريح على بياض نقائهِ

والطهر فاض إلى النفوس جلالةً وتوضَّأتْ ديَم السحاب بمائهِ

فما أجمل هذه الصورة المركبة من الخلود والبهاء والطهر والوضوء والديم والسحاب؛ تلك الصورة التي يختتمها بأن السحاب هو الذي يتوضأ بماء الطهر النقي الصافي:

والنبض زاهٍ تقتفي أحلامَه          لغة الضياء وترتقي لضيائه

ولكنه لا يلبث أن يقف بنا «على حافة الليل» من بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن) بصور يتزاوج فيها التجريد والتشخيص والرمزية:

ليل يمور وسهدٌ قد قضى وطَرَهْ      والأمنيات يبابٌ تقتفي أثره

والحالمون سهارى يقطفون سدًى زهر النجوم ويُقصي ليلُهُم سحَرَه

وتمضي هذه القصيدة بقافيتها على حرفي الراء المفتوحة فالهاء الساكنة التي تحمل كل أنين موجع، وكل صدى مؤلم:

تقول والصبح قد تاهت مراكبه      وصولة الريح لا تبقيه؛ لن تذرهْ

تزيد من ألمه تلك الأحلام المطأطأة والتي ختم بها هذه القصيدة:

وحول محرابه اصطفت مطأطأةً     أحلامه وطوت ما كان قد نشرهْ

هل توحي القافية الساكنة إلى سكون الروح، أم إلى صرخة الوجع المكتوم التي لا يستطيع أن يصرخ، ولا أن يصرِّح بها رغم أن دقات قلبه المتسارعة تحملها إلينا متلاحقة قصيدته «تعاليْ» على نغم المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) مع أبيات لا تكاد تمضي كلمة فيها حرف السين الهامس بهذا الوجع حتى تأتينا أخرى بهذه السين التي لا تكاد تخرج من فمه، فهو يغالب قلبه على السكوت؛ لكن روحه تريده أن ينطق، فنجد تلك النبضات الموارة بين الأنين والحنين، بين السُّكر والألم:

تعالي لكي تستريح الأماني   ويهمس نبض التلاقي أنا لكْ

يريد أن يخلع ذلك الليل الطويل الذي التحف به فؤاده من البؤس:

تعالي لأخلع ليلا من البؤ س يقتاتني ثم يُقصي خيالَكْ

هو يريد أن يخرج من غيابات البؤس إلى ضياء الفرح:

تعالي لأبصر وجه الضياء         ينادمني ثم يرجو ظلالكْ

فهل يرتاح شاعرنا حسين أحمد الزيداني عندما يصل إلى ظل محبوبته، فيجلس تحته مسترخيا ثملا بذلك الحب الأبدي الذي ملأ عليه جنان روحه كما ملأ هواء «رجال ألمع» عليه وجدانه، وملك عليه فؤاده. إننا أمام شاعر يستحق أن نتوقف أمام إبداعه بفرادة تراكيبه، وتنوع بحوره، ونغمية أوزانه، وخليلية قوافيه مرات أُخَر في دراسات أكثر أناة وروية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.