حصر السّلاح والاستراتيجية الدّفاعيّة: التّوأم المشوَّه

18

بقلم نقولا ناصيف

«أساس ميديا»

مناقشة سلاح “الحزب” في مجلس الوزراء طبيعي ومنطقي، ما دامت حكومة الرئيس نوّاف سلام جعلت من حصر السلاح في يد الدولة أحد محاور بيانها الوزاري والتزاماً حيال الداخل والمجتمع الدولي. وافقت عليه أيضاً الكتل النيابية المشاركة في الحكومة ومحضتها تبعاً لذلك الثقة. أمّا معضلة إخراج القرار فتكمن في مجلس للوزراء منقسم بين فريقين يصعب التوفيق بينهما: ما يقبل به الثنائي الشيعي سيرفضه حزب القوّات اللبنانية، وما يطالب به هذا سينبذه ذاك. القاطع أنّ أيّاً منهما لن يخرج من حكومة سلام.

ليست المرّة الأولى التي يُطرح فيها السلاح على طاولة مجلس الوزراء. كانت السابقة في القرار الأوّل لحكومة الرئيس عمر كرامي بُعيد تأليفها عام 1990، انسجاماً مع ما أوردته في بيانها الوزاري بالاستناد إلى اتّفاق الطائف، بتجريد الميليشيات من سلاحها بالتزامن مع قرار اتّخذه الجيش بفرض سيطرته على الأرض واستعادتها منها. آنذاك دارت مفاوضات مع الأفرقاء الثلاثة الأكثر تسلّحاً، الحزب التقدّمي الاشتراكي وحركة أمل والقوّات اللبنانية، لتسليم ترساناتها. لم يكن في إمكان الجيش تنفيذ القرار، وهو بالكاد آنذاك يعيد بناء نفسه وخارج للتوّ من آخر معارك الحرب الأهلية في 13 تشرين الأوّل، دون أن يعوّل على مرجعية قادرة على فرضه هي الجيش السوري. انتهى المطاف إلى أحد ثلاثة خيارات: تسليمه إلى الجيش أو إعادته إلى سوريا أو بيعه للخارج. لم يُتَح قرار كهذا إبصار النور إلّا في ضوء تحوّلات رافقت مرحلة ما بعد اتّفاق الطائف أرغمت الأفرقاء الثلاثة على الانصياع له.

استنساخ لِما حصل..

ما حدث آنذاك هو نفسه مرشّح إلى أن يُعاد تصوّره بوقائع مختلفة: انتقلت مرجعية الفرض من سوريا إلى الولايات المتّحدة وإسرائيل، فيما واقع الجيش اليوم يختلف عمّا كان وقتذاك. أمّا المشكلة فنفسها: صعبة لأنّ مَن يحمل سلاحاً مكّنه من فائض قوّة غير مسبوق كما في الماضي لا يتخلّى عنه طوعاً، وسهلة لأنّ كلفة الاحتفاظ به ستمسي باهظة عليه وعلى مجتمعه وبيئته وطائفته. آنذاك، عام 1991، طالبت إحدى الميليشيات الثلاث، القوّات اللبنانية، بثمن سياسي مسبق لقاء تسليمها السلاح، فأُجيبت بما لم يُرضها: تسليم السلاح ليس للمقايضة بل قرار بذاته للتنفيذ. المقايضة في ما بعد لدى السلطات السياسية وفي لعبة التوازن الداخلي والأحجام.

على غرار حكومة كرامي وانضواء الأفرقاء المعنيّين بالحرب الأهليّة في ذلك الحين في صفوفها، كذلك حال حكومة الرئيس نوّاف سلام: مؤيّدو الاحتفاظ بالسلاح ومعارضوه جنباً إلى جنب. ذلك ما يفترض أن يخلص مجلس الوزراء في جلسة الثلاثاء المقبل أو التي تليها إلى الإجماع على قرار استبدال “حلّ الميليشيات” بـ”حصر السلاح في يد الدولة”. تالياً أمام “الحزب”، سواء استعاد تجربة 1991 وقد استُثني منها آنذاك بذريعة افتقرت حتماً إلى الصدقية وهي أنّه مقاومة لم يتورّط في النزاع الأهليّ، أو لم يأبه بدرس التجربة السابقة، فهو أمام معطيات من شأنها أن تفضي إلى النتيجة نفسها:

1- لن يكون بعد الآن في صدد خوض أيّ حرب ضدّ إسرائيل يتسبّب هو بها على غرار حرب تمّوز 2006 وحرب طوفان الأقصى عام 2023، وهو ما أخطر المسؤولين الرسميين به، بل يقرّر أن يخوضها أو لا يخوضها عندما يُعتدى عليه. أضف أنّه أُبْعِد كثيراً عن خطوط تماسّ المواجهة مع إسرائيل عند الخطّ الأزرق.

ما قصّة الأمن الوطنيّ؟

2- بينما فاجأته في خطاب القسم للرئيس جوزف عون عبارة “حصر السلاح في يد الدولة”، كان على بيّنة لوقت سابق ممّا كان يُعدّ له القائد السابق للجيش وعَرَضَه عليه قبل اندلاع حرب إسرائيل و”الحزب” في أيلول 2023. آنذاك، في خضمّ حوار غير مباشر دار بين عون و”الحزب” تناول الاستحقاق الرئاسي وترشّحه له، سأل “الحزب” عن موقفه من “سلاح المقاومة”. كان جوابه أن أرسل إلى الأمين العامّ الراحل السيّد حسن نصرالله دراسة أعدّها باحثون في كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان، بإشراف مباشر لعون، تحدّثت عن سياسة أمن وطني تتضمّن استراتيجية دفاعية لحماية لبنان من العدوّ. اطّلع نصرالله عليها وعقّب بردّ مبدئي إيجابي رأى أنّها مقبولة بيد أنّها تحتاج إلى تفاصيل وتوسُّع. تقرّرت على الأثر مباشرةُ حوارٍ فيها حال دونه اندلاع حرب الإسناد.

3- بينما ربط خطاب القسم واستطراداً البيان الوزاري بين حصر السلاح في يد الدولة وبين وضع سياسة أمن وطني من ضمنها استراتيجية دفاعية على نحو تلازَمَا في فقرتين متتاليتين لوظيفة تنتهي بهما إلى التطابق، واقع الحال أنّ كلا البندين يتناقضان أكثر ممّا يتطابقان. بينما تُفسَّر حصرية السلاح في يد الدولة، وهو تعبير مكمّل ومرادف لحلّ الميليشيات، على أنّها قرار برسم التنفيذ، لسياسة الأمن الوطني، ومن ضمنها الاستراتيجية الدفاعية آليّة طويلة الأمد وقد تكون بطيئة، ولن يعطي الأميركيون والإسرائيليون صبر انتظارها. لا تجعل سلاح الحزب حكراً على الدولة اللبنانية، بل في حراسة كليهما.

أن يظلّ “الحزب” مالكه، والجيش حارساً وناطوراً عليه إلى حين استخدامه، المتعذّر في كلّ حال وفي كلّ حين. الشرط الأميركي ـ الإسرائيلي أن يدمّر الجيش اللبناني كلّ سلاح يضع يده عليه أو يصادره، ويُمنع من الاحتفاظ به لئلّا يشكّل تهديداً لإسرائيل على غرار ما كان بين يدي “الحزب”.

4- في ظاهر ما يقدّمه خطاب القسم أنّه يقترح حلّاً لمعضلة سلاح أضحى غير شرعي وفقد عنوانه التاريخي منذ اتّفاق الطائف، من خلال الخوض في سياسة أمن وطني أحد بنودها الاستراتيجية الدفاعية دونما اقتصارها عليها. في واقع العالِمِين بتسويق الفكرة هذه أنّها ليست سوى “متنفّس” لـ”الحزب” للذهاب به إلى طاولة التفاوض على التخلّي عن سلاحه، أكثر منه على إرغامه عليه، وهو ما قد يبدو مستعصياً.

لا يبدو قليل الأهمّية في ما أورده خطاب القسم، في مرحلة الإعداد له مع مستشاريه ومعاونيه، أنّ القائد السابق للجيش عشيّة انتخابه رئيساً للجمهورية، كان هو بالذات صاحب عبارة “حصر السلاح في يد الدولة” وأصرّ عليها قبل أن تقترن وتتلازم بالفقرة التالية المتعلّقة بسياسة الأمن الوطني.

نقولا ناصيف

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.