خريف آيات الله: أيّ تغيير مقبل على إيران؟ – 2

5

بقلم إيمان شمص

«أساس ميديا»

هذا يترك مجتبى، نجل خامنئي البالغ من العمر 56 عاماً، أبرز المرشّحين، وهو معروف بعلاقاته السرّية مع الحرس الثوريّ. تُوحي صورته باستمراريّة جيل والده، لا بديناميكيّة عصر جديد. ولا يُوحي المتنافسون المتشدّدون الآخرون بمزيد من الثقة. لا تعتمد الخلافة الشخصيّة على الموافقة الشعبيّة، بل على ولاء الحرس الثوريّ الإيراني.

على عكس كوريا الشمالية، لا يمكن لإيران أن تغلق نفسها بشكل محكم: إسرائيل تهيمن على أجوائها وأظهرت مراراً قدرتها على ضرب المواقع النوويّة وقواعد الصواريخ والقادة الكبار.

إذا كان القائد الأعلى المقبل متشدّداً آخر، فمن المرجّح أن يكون شخصيّة انتقاليّة تحافظ على النظام لفترة، لكنّه لن يشكّل نظاماً جديداً مستقرّاً. إذا كان العصر المقبل في إيران ينتمي إلى رجل قويّ آخر، فمن غير المرجّح أن يرتدي عمامة.

إيران كباكستان؟

إذا كان مستقبل إيران يكمن في الحرس الثوريّ الإيرانيّ، فقد تُقدّم باكستان سابقةً أقرب. فالحرس الثوري الإيراني ليس كتلة متماسكة: إنّه كوكبة من الكارتلات المتنافسة التي تمّ احتواء تنافساتها الجيليّة والمؤسّسيّة والتجاريّة تحت سلطة خامنئي. سيُبرز رحيله تلك الخلافات إلى العلن.

أحد السيناريوهات التي قد ينتقل فيها الحرس الثوري الإيراني من الهيمنة إلى الحكم المطلق هو أن يسمح الحرس الثوري للاضطرابات بالتفاقم قبل أن يتدخّل بصفته “منقذ الأمّة”. وهذا من شأنه أن يعكس الجيش الباكستاني، الذي لطالما برّر هيمنته بتقديم نفسه حارساً للوحدة الوطنيّة في مواجهة كلّ من الهند والتفكّك الداخليّ.

بالنسبة للحرس الثوري الإيرانيّ، لا تتطلّب هذه الاستراتيجية تهميش رجال الدين فحسب، بل تحويل المبدأ التنظيميّ للدولة نفسها من الأيديولوجية الثوريّة الشيعيّة إلى القوميّة الإيرانية. لكي يستمرّ نظام الحرس الثوريّ الإيرانيّ، فمن شبه المؤكّد أنّه سيتطلّب جيلاً جديداً من القادة قادرين على استقطاب الجمهور من خلال القوميّة بدلاً من الأيديولوجية الدينيّة.

كما هو الحال في باكستان، ستُعرَّف إيران كهذه بالجنرالات القوميّين الحريصين على تأجيج حماسة شعبهم، والمتردّدين دائماً بين المواجهة والتوافق مع الغرب أكثر ممّا ستعرَّف برجال الدين.

إيران كتركيا؟

تُقدّم التجربة التركيّة في عهد الرئيس رجب طيّب إردوغان مثالاً مُشابهاً: انتخابات تُوصل زعيماً شعبيّاً إلى السلطة، وإصلاحات أوّلية تلقى صدى لدى المواطنين العاديّين، ثمّ انزلاق تدريجيّ نحو استبداد الأغلبيّة المُتستّر بعباءة الديمقراطيّة.

لكي تتبع إيران هذا المسار، يلزم حدوث تغيير مؤسّسيّ شامل، ويتعيّن تفكيك طبقات السلطة المُعقّدة في الجمهوريّة الإسلاميّة، بما في ذلك مكتب المرشد الأعلى ومجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء ودمج الحرس الثوريّ الإيراني في الجيش المحترف وتمكين المؤسّسات المنتخَبة المُفرغة إلى حدٍّ كبير في البلاد. بدون هذه الشروط الأساسيّة، لا يُمكن للسياسة التنافسيّة والمساءلة الحقيقيّة أن تتجذّر.

في الواقع، مارس الإيرانيون منذ فترة طويلة أشكال الحكم التمثيليّ دون التمتّع بجوهرها. يمكن لأيّ انتخابات نزيهة أن تبرز زعيماً شعبويّاً. في بلد يتمتّع بموارد كبيرة ويعاني من تفاوت عميق، كانت الشعبويّة قوّة متكرّرة في السياسة الإيرانيّة الحديثة. سواء من خلال انتخابات مفتوحة أو تنافسيّة، قد تشهد إيران ما بعد خامنئي صعودَ دخيلٍ شعبويٍّ ذي صدقيّة قوميّة وقدرة على حشد الغضب ضدّ النخب والأعداء الأجانب على حدٍّ سواء.

لن يقود هذا المسار إيران إلى الديمقراطيّة الليبراليّة، لكنّه لن يُبقي على حكم رجال الدين، بل سيمزج الشرعيّة الشعبيّة بالسلطة المركزيّة، وإعادة التوزيع بالفساد، والقوميّة بالرمزيّة الدينيّة. بالنسبة للعديد من الإيرانيّين، سيكون هذا أفضل من استمرار الحكم الدينيّ أو العسكريّ. مع ذلك، وكما توضح تجربة تركيا، قد لا تفتح الشعبويّة الباب أمام التعدّديّة، بل أمام شكل جديد من الاستبداد، شكل يحظى بدعم جماهيريّ وتفويض من صناديق الاقتراع.

سيناريوهات خارجة عن المألوف؟

تماماً كما أربك عام 1979 الداخلين والخارجين على حدّ سواء، فإنّ السيناريوهات الخارجة عن المألوف ممكنة مرّة أخرى. بالنظر إلى غياب البدائل، يتطلّع بعض الإيرانيّين إلى رضا بهلوي، ابن الشاه المنفيّ، الذي يحظى باعتراف واسع باسمه مدعوماً بصناعة إلكترونيّة صغيرة من الحنين إلى حقبة ما قبل الثورة.

مع ذلك، بعد قضائه ما يقرب من نصف قرن في الخارج، سيحتاج إلى التغلّب على غياب التنظيم والقوّة الميدانيّة ليتمكّن من الانتصار في المنافسات القاسية التي تُميّز التحوّلات الاستبداديّة.

هناك احتمال آخر ربّما يكون أكبر مخاوف العديد من الوطنيّين الإيرانيّين، وهو تفكّك على غرار يوغوسلافيا على أسس عرقيّة. قد ترى الأقليّات في إيران في إضعاف المركز فرصةً للثورة أو فرصةً للبدء من جديد.

لكن على عكس يوغوسلافيا، ترتكز إيران على هويّة أقدم وأكثر تماسكاً: أكثر من 80% من الإيرانيّين إمّا فارسيّون أو أذربيجانيّون، ويتحدّث جميعهم تقريباً اللغة الفارسيّة المشتركة، وحتّى الجماعات غير الفارسيّة تُعرِّف نفسها بدولةٍ لها تاريخٌ متواصلٌ لأكثر من 2,500 عام.

في جوهرها، تبدو إيران مجدّداً دولة قابلة للتنافس عليها ومفتوحة على الجميع، مع مستقبلٍ قد يختلف اختلافاً جذريّاً. ستستفيد الولايات المتّحدة وبقيّة العالم من جمهوريّةٍ ما بعد إسلاميّةٍ تُرشدها المصلحة الوطنيّة بدلاً من العقيدة الثوريّة. لكن أكّدت تجربة الولايات المتّحدة في أفغانستان والعراق حدود النفوذ الأجنبيّ.

قد تُفضّل موسكو استمرار الجمهوريّة الإسلاميّة شوكةً دائمةً في خاصرة واشنطن ومصدراً لعدم الاستقرار يُفاقم مخاطر الطاقة العالميّة. على النقيض من ذلك، لدى الصين مكاسب أكبر بكثير من إيران التي تُوظّف إمكاناتها لتكون قوّة طاقة مُهيمنة، مقارنةً بإيران التي تُصدّر عدم الاستقرار.

إيران مرنة لتقرير مصيرها

بغضّ النظر عن مدى تأثير القوى الخارجيّة، إيران اليوم كبيرة ومرنة بما يكفي لرسم مصيرها بنفسها. وتمتلك جميع مقوّمات دولة من دول مجموعة العشرين: لكن بالنسبة للديمقراطيّين الإيرانيّين، المناخ الدوليّ غير ملائم.

الحكومات الغربيّة منشغلة بتراجعها الديمقراطيّ. قلّصت الولايات المتّحدة من مؤسّسات كانت أساسيّة لنجاحها في الحرب الباردة. في هذا الفراغ، من المرجّح أن تتبع إيران الاتّجاه العالميّ الأوسع نطاقاً الذي يبرز فيه رجال السلطة من خلال تأكيد فضائل النظام بدلاً من وعد الحرّيّة.

قد لا يُحدّد رأي الأغلبيّة مسار التحوّل في إيران، لكن بقدر ما يسعى الطامحون السياسيّون إلى استمالتهم، تبدو حقيقة واحدة جليّة: لا يتوق الإيرانيون إلى شعارات جوفاء أو عبادة شخصيّة أو حتّى مفاهيم ديمقراطيّة منمّقة.

ما يتمنّونه هو حكومة مُدارة جيّداً وخاضعة للمساءلة، قادرة على استعادة كرامتهم الاقتصاديّة، وتمكينهم من عيش حياة طبيعيّة خالية من قبضة دولة خانقة. لقد مثّلت فترة حكم الجمهوريّة الإسلاميّة نصفَ قرنٍ ضائعاً بالنسبة لإيران. بدّدت ثرواتها على مغامرات إقليميّة فاشلة وبرنامج نوويّ لم يُسفر إلّا عن عزلة، وكلّ ذلك في ظلّ قمعها وإهدارها لأعظم مصدر لثروتها: شعبها.

إيمان شمص

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.