دمشق وموسكو بعد الأسد: بداية تحوّل في سياسة سوريا الخارجية

20

بقلم د. ابراهيم العرب

تاريخيًا، ارتبطت سوريا وروسيا بعلاقات وثيقة ومتجذرة، تعود إلى زمن الحرب الباردة، حين شكّل الاتحاد السوفيتي الداعم الرئيسي لسوريا في وجه التحديات الإقليمية والدولية. فقد زوّد الاتحاد السوفياتي دمشق بالسلاح، وقدم لها الدعم السياسي والاقتصادي، وساهم في بناء مؤسساتها الدفاعية والمدنية. ومع انهيار الاتحاد، لم تنقطع العلاقة تمامًا، وإن شهدت بعض التراجع خلال فترة التسعينيات. لكن سرعان ما استعادت زخمها في العقدين الأخيرين، خصوصًا في ظل التوترات المتصاعدة في المنطقة، وتصاعد الدور الروسي على الساحة الدولية. وبعد الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد في العام الماضي، برزت مؤشرات جديدة تؤكد على تحول نوعي في العلاقات بين دمشق وموسكو، تمثلت خصوصًا في الزيارة الرسمية التي قام بها وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، إلى العاصمة الروسية موسكو، في أول زيارة من نوعها لمسؤول في الحكومة السورية الجديدة.

هذه الزيارة لم تكن مجرد بروتوكول سياسي، بل تحمل في طياتها دلالات عميقة تؤشر إلى مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، تنبع من تفاعل معقد بين مصالح استراتيجية، ودوافع سياسية وأمنية واقتصادية، تعكس سعي دمشق إلى تأمين دعم روسي متعدد الأوجه في ظل مرحلة انتقالية دقيقة تشهدها البلاد.

 في هذا السياق، يُعد الانفتاح السوري على روسيا خيارًا استراتيجيًا مدروسًا، يستند إلى أربعة محاور أساسية: الدعم السياسي، الدعم العسكري، المصالح الاقتصادية، والتحديات الجيوسياسية.

أولًا: الدعم السياسي والدبلوماسي

تُعد روسيا حليفًا استراتيجيًا لسوريا، وقد واصلت هذا الدور حتى بعد انهيار نظام الأسد، مما يدل على رغبة موسكو في الحفاظ على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. فالكرملين يَعتبر سوريا بوابة أساسية لتعزيز حضوره في البحر المتوسط، ومنصةً لتثبيت موقعه كفاعل عالمي لا يمكن تجاهله. وقد تجلّى الدعم السياسي الروسي بوضوح من خلال استمرار موسكو في تأكيدها على وحدة وسلامة الأراضي السورية، ورفضها لأي مسار سياسي تفرضه القوى الغربية من دون التشاور مع الحكومة الشرعية في دمشق. كما استخدمت روسيا مرارًا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدّولي لحماية سوريا من قرارات قد تؤدي إلى تدويل الأزمة أو فرض وصاية دولية عليها.

هذا الغطاء السياسي الروسي يمنح الحكومة السورية الجديدة هامشًا واسعًا من المناورة في علاقاتها الإقليمية والدولية، ويشكّل خط دفاع أساسي في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة. كما أن الوجود الروسي في المحافل الدولية يمكّن سوريا من استعادة حضورها التدريجي في المنظمات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل محاولات بعض الدول إعادة تطبيع العلاقات مع دمشق.

ثانيًا: الدعم العسكري والأمني

لا يقتصر الدعم الروسي لسوريا على الجانب السياسي والدبلوماسي، بل يتعداه إلى الدعم العسكري المباشر، حيث تبرز موسكو كلاعب ميداني رئيسي، عبر قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم، وعبر مستشاريها الذين يساهمون دوماً في تدريب وتأهيل القوات السورية، في جميع العهود.

هذا التعاون العسكري، الذي يتواصل حتى بعد سقوط نظام الأسد، يشكّل ضمانة رئيسية لحفظ الأمن الداخلي، ولمواجهة التنظيمات الإرهابية والخلايا المسلّحة التي لا تزال تنشط في بعض المناطق الحدودية. كما أن استمرار الوجود العسكري الروسي يشكل رادعاً لأي محاولات تدخل خارجي، لا سيما من قبل إسرائيل أو بعض القوى الغربية. علاوة على ذلك، يعزز هذا التعاون من قدرة الجيش السوري على إعادة الانتشار وبسط السيادة على كامل الأراضي الوطنية، ضمن مشروع استعادة الدولة ومؤسساتها.

ثالثاً: المصالح الاقتصادية وإعادة الإعمار

بعد سنوات طويلة من الحرب، تواجه سوريا تحديات اقتصادية هائلة، تتعلق بإعادة الإعمار، وتوفير الخدمات الأساسية، وإنعاش الدورة الاقتصادية. هنا، تلعب روسيا دوراً محورياً بوصفها شريكاً اقتصادياً قادراً على الاستثمار في مشاريع كبرى، لا سيما في مجالات الطاقة والنقل والبنية التحتية.

وقد أبدت موسكو استعداداً للمشاركة في عمليات إعادة الإعمار، من خلال شركاتها العامة والخاصة، ما يعزز فرص انتشال الاقتصاد السوري من حالة الشلل. هذا التعاون لا يقتصر على الجانب الثنائي، بل يرتبط أيضاً بشبكة علاقات أوسع، تشمل انخراط سوريا في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ما يشير إلى بداية اصطفاف اقتصادي استراتيجي بين دمشق، موسكو وبكين. هذا المحور الناشئ قد يعيد رسم ملامح التحالفات الاقتصادية في الشرق الأوسط، ويمنح سوريا خيارات أوسع بعيداً عن الهيمنة الغربية.

رابعاً: التحديات الجيوسياسية وموازنة القوى

تواجه سوريا بيئة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، تشمل ما تبقى من عقوبات غربية، وتدخلات عسكرية أجنبية، وغارات إسرائيلية مستمرة، فضلاً عن محاولات بعض الدول التأثير على القرار السياسي السوري. في ظل هذه الظروف، يبدو الانفتاح على روسيا بمثابة استراتيجية توازن تهدف إلى كسر العزلة، ومواجهة الضغوط الغربية.

إن العلاقة مع موسكو تتيح لدمشق استخدام الورقة الروسية في التفاوض غير المباشر مع واشنطن والعواصم الأوروبية، إذ تشكّل هذه العلاقة رسالة واضحة مفادها أن استمرار الضغوط قد يدفع سوريا إلى التماهي الكامل مع المحور الشرقي، ما قد يُربك الحسابات الجيوسياسية للغرب. في هذا السياق، تسعى سوريا إلى استعادة دورها الإقليمي كدولة فاعلة، لا كدولة منكفئة تحت الحصار.

كما تشير المعطيات الحالية إلى أن العلاقات السورية الروسية مرشحة لمزيد من التعمق في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع وجود مصالح استراتيجية متبادلة. فروسيا ترى في سوريا قاعدة متقدمة لنفوذها في الشرق الأوسط، فيما ترى سوريا في موسكو شريكاً يمكن الاعتماد عليه لإعادة بناء الدولة ومواجهة التحديات الكبرى. ومع أن العلاقة قد تواجه بعض العقبات، مثل التغيّرات في مواقف بعض الأطراف الإقليمية أو الضغوط الاقتصادية المتزايدة على موسكو، فإن التفاهمات العميقة بين الجانبين تعزز فرص الاستمرارية والتوسع.

في الختام، إن دوافع الانفتاح السوري على روسيا تتجاوز البعد التكتيكي أو الظرفي، لتعكس توجهاً استراتيجياً طويل الأمد، نابعاً من قناعة بأن الشراكة مع موسكو ضرورية لمواجهة تحديات ما بعد الحرب. فروسيا توفر لسوريا ليس فقط الغطاء السياسي والعسكري، بل أيضاً فرصةً اقتصادية وانخراطاً في منظومة دولية بديلة. ففي ظل مشهد إقليمي متغيّر، تبدو العلاقة السورية-الروسية أحد أعمدة التوازن الجديدة، التي قد تعيد رسم ملامح النظام الإقليمي، وتمنح دمشق فسحة لإعادة بناء دورها ومكانتها على المستويين العربي والدولي.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.