رسائل إلى القادة والسياسيين القواعد النفسية للسلطة

27

‏الحلقة الثالثة عشرة

د. عماد فوزي شُعيبي

‏نتابع عرض النصائح السياسية والإدارية النفسية لكبار القادة والإداريين، وذلك من كتابنا “القواعد النفسية للسلطة”.

حذارِ… التكلفة المُغْرِقة

لا تأخذنا العزة بالإثم! فإذا قُمنا بفعلٍ كانت تكلفته عالية منذ البداية ووجدنا أن نتائجه أقل من تكاليفه، فلا يجب أن نسقط في مغالطة التكلفة المغرقة، فنستمر ونغرق فيه. ولتكن لدينا جرأة التراجع عنه.

مثال اقتصادي: ما حدث مع بريطانيا وفرنسا اللتين اشتركتا في مشروع طائرة الكونكورد التي تعتبر طائرة أسرع من الصوت منذ عام 1956، وكلّف 1.5 مليار جنيه استرليني حتى عام 1963، لتكتشفا أن الطائرة غير اقتصادية. لكن عناد التكلفة المغرقة دفعتهما للاستمرار فزادت التكاليف إلى أن انتهى المشروع كلياً بخساراتٍ متراكمة.

القاعدة: لا تستمر في مشروع أو قرار سياسي لأنك صرفت عليه كثيراً، إذا تبيّن أنه فاشل. هذه مغالطة “التكلفة المغرقة”.

مثال تاريخي:

حرب فيتنام (1955–1975): واصلت الولايات المتحدة التدخل العسكري والسياسي في فيتنام رغم الفشل الذريع وارتفاع الخسائر البشرية والمادية، فقط لأنها أنفقت كثيراً على الحرب ولم ترد الاعتراف بالفشل. كان يمكن الانسحاب المبكر بكلفة أقل.

***

مغالطة ادعاء المعرفة

حاذر من مُغالطة ادعاء المعرفة. فإذا سُئِلت عن أمر لا تعرفه، لا تجب عنه دون معرفةٍ فقد تُثير سخرية الآخرين. ولا تبدي جهلك إذا كان لازماً أن تكون عارفاً بحكم مسؤوليتك. أجب عنه بطلب: أتمنى أن أستمع منكم عن تفاصيله أكثر. فيتم سرد ما  لم تعلم … وبتفاصيل مهمة إضافيّة لدى من يسأل.

مثال تاريخي:

جورج بوش الأب في قمة مدريد 1991: حين سُئل عن قضايا الشرق الأوسط المعقّدة، لم يُجب مباشرة بل أحال إلى خبرائه، وأظهر تفويضاً لهم، ما منحه مصداقية بدلاً من الوقوع في الخطأ.

***

لا تصدِّق التوسّل بالجمهور

استخدم مغالطة التوسل بالجمهور الأكثري (باللاتينية:Argumentum ad Populum)، ولكن لا تصدّقها. افترض صحة ما يقبله أكثر الناس لمجرد أن الأكثرية تقبل به. وهذه مغالطة تستخدم من قبل بعض السياسيين لتمرير مواقف يراها الجمهور مناسبة ولو كانت غرائزية أو لا عقلانية. فليس ما يراه الجمهور صحيحاً يكون كذلك.   

القاعدة: استعمل الرأي العام ولكن لا تظن أنه دائماً على صواب.

المثال الأول: شارل ديغول واستفتاء الجزائر

السياق:

في الخمسينات، كانت الأغلبية الفرنسية تعتبر أن “الجزائر جزء من فرنسا”. وكان هذا الموقف مدعوماً جماهيرياً، عسكرياً، وحتى سياسياً.

ما فعله ديغول:

أعلن في البداية شعارات توافق الجمهور، من نوع “تحيا الجزائر الفرنسية”، كي يُسكّن الغضب.

ثم بهدوء، غيّر مسار السياسة.

وقاد مسار استقلال الجزائر لأنه يعرف أن رأي الجمهور في تلك اللحظة عاطفي وغير عقلاني.

النتيجة:

مرّر الاستقلال رغم أن الأكثرية كانت ضدّه مبدئياً. لكنه استخدم موافقتها لاحقاً لشرعنة النتيجة النهائية (استفتاء 1962).

الدلالة:

ديغول استخدم الجمهور، لكنه لم يصدّقه، ولم يجعل إرادته معياراً للحق.

المثال الثاني: فوز هتلر الانتخابي 1933 ومغالطة الجمهور

السياق:

في انتخابات 1933، فاز الحزب النازي بأغلبية ساحقة، واعتبر الشعب أن هتلر هو “المنقذ القومي”، وصوّت له تحت تأثير الأزمة الاقتصادية والنفسية بعد الحرب العالمية الأولى.

ما حدث:

هتلر استخدم مغالطة “ما دام الشعب يريد، فهذا هو الصواب” ليقوّض الديمقراطية ويقيم دكتاتورية.

لكن القائد الحكيم لا يصدّق هذه المغالطة بل يستخدمها إن لزم الأمر، دون أن يُخدع بها.

الدلالة العكسية:

من صدّق رأي الجمهور انحدر معه. لكن من فهمها كمغالطة وظّفها تكتيكياً فقط.

المثال الثالث: اليونان وحكومة تسيبراس (2015) – استفتاء رفض شروط التقشف

السياق:

حكومة “سيريزا” اليسارية نظّمت استفتاءً على خطة الإنقاذ المالي الأوروبية التي تتضمّن شروط تقشف. صوّتت الأغلبية بالرفض.

الخطأ:

ظنّ تسيبراس أن دعم الشعب له يعطيه قوة للتحدي الكامل مع الاتحاد الأوروبي.

لكن الواقع الاقتصادي والسياسي لم يحتمل هذا التحدي.

النتيجة:

رغم الاستفتاء، عاد القادة لقبول شروط أشد من الأولى لاحقاً، فتآكلت الثقة وسقطوا سياسياً

ملحق إداري معاصر: مارك زوكربيرغ وسياسة الخصوصية في فيسبوك

السياق:

كان الجمهور يرفض تقييد بياناته ويريد تجربة مفتوحة و”مجانية”.

ما فعله:

زوكربيرغ لم يجارِ هذا “الرأي العام” بالكامل.

غيّر السياسات تدريجياً نحو تقييد البيانات، بسبب الضغوط القانونية والاستراتيجية.

لكنه سوّق ذلك للجمهور بطريقة ترضيهم، دون أن يصدق أن ما يريدونه صوابٌ مطلق.

القاعدة التدريبية المقترحة:

“الجمهور قد يكون صوتاً هادراً، لكنه ليس بوصلةً دقيقة. استخدم هديره، لكن لا تسر خلفه، وإلا فقدت الطريق.”

***

احتكم إلى جَهْلِهم… ولكن

استخدم مغالطة الاحتكام إلى الجهل (Ad Ignoratiam) عند الحاجة إلى تضليل الخصوم؛ والمقصود فيها أن يُزْعَم أن أمراً ما صحيح مادام أحد لم يبرهن على أنه باطل؛ أي الاستناد إلى جهلهم الذي لايمكن تجاوزه.

 والمثال على هذه المُغالطة أن يقول أحدهم: إن عدد شعرات  رأس نابليون كانت 45788 وطالما أنكم جميعاً  لا تعرفون عدد شعراته فعلاً يكون ما قيل صحيحاً. فالاحتكام إلى جهل الآخر ممكن بشرط ألاّ يكون الآخر قادراً على أن يعرف لاحقاً.

القاعدة: استخدم جهل خصمك لصالحك ولكن لا تصدّقه.

مثال تاريخي:

أمراء عصر النهضة: كان بعضهم يوهم خصومه بأنه لا يعلم ما يُدبّر، ليستغل جهلهم، ثم ينقضّ عليهم بمكر.

***

حاذرْ من مغالطة تعزيز الخطأ

يحدث أحياناً أن يقدّر المرء موقفاً ما تقديراً خاطئاً فيتبع مجموعة من الإجراءات المبنية على هذا التقدير، فتؤدي به إلى مزيد من التدهور، فيتابع إصراره، وتأتي ظروف من خارج السياق، فيجد نفسه في وضع جيد، فيتعزز لديه تصوّره الخاطئ ويتأكد له صوابية ما كان يفعل، فيطفق يروج لنظريته باعتبار أن النتيجة نتاج حتمي لصحة أفكاره. هذه المُغالطة ستجعلك تعزز أخطاءك فتسقط في إحداها ذات يوم.

القاعدة: لا تظن أن نتيجة إيجابية تثبت أن خطواتك السابقة كانت صحيحة.

مثال تاريخي:

الاتحاد السوفيتي وأفغانستان: برغم الخسائر، ظن القادة السوفييت أن بقاءهم الطويل هناك مبرّر طالما أنهم ما زالوا قائمين، حتى سقط الاتحاد السوفيتي.

‏مثال آخر:

جورج بوش الابن وغزو العراق (2003)

السياق:

بوش قرر غزو العراق بناءً على ترويج معلومات استخباراتية عن “أسلحة دمار شامل” لم تكن موجودة.

ما حدث:

تم الغزو بسرعة وسقط نظام صدام حسين، فاعتبر بوش أن الخطة صحيحة و”ناجحة”.

هذا النجاح العسكري الأولي عزز الخطأ الأصلي في تقدير الموقف.

بدأ بوش يروج لفكرة أن اجتياح الدول “لجلب الديمقراطية” هو استراتيجية صائبة.

لكن العراق انزلق بعدها إلى فوضى أهلية واحتلال طويل واستنزاف، وكلف أمريكا مئات الآلاف من الأرواح والميزانيات.

الدلالة على القاعدة:

نتيجة ظاهرها إيجابي (سقوط النظام) عززت تقديراً خاطئاً جوهرياً، مما أدى إلى كوارث لاحقة

***

اركب موجة تأثير «القطيع» أو تأثير «القافلة»

 (Bandwagon effect)

هذه المُغالطة خطيرة في التفكير العام؛ إنها تُشير إلى غوغائية التفكير الجماعي والسير القطيعي وراء بعضهم، و بالتالي سرعة التأثير عليها، وهي تعني أن احتمالَ تبني المرء منَّا لفكرةٍ مُعَيَّنَةٍ تَزدادُ مع ازديادِ عددِ الذين يَتَبَنُّونَ هذه الفكرة. ويُعتَبَر هذا التأثيرُ شكلًا بارزًا من أشكال التفكيرِ الجمعي القطيعي؛ فالناس تثق وتتبع الذي يتبعه أكبر عدد من الناس.

 ويمكن الاستفادة منها، عبر ركب قناعات الناس العامّة والغرائزية، لتُوصلك إلى هدفك، ولكن على القائد ألاّ يُصدقها وألاّ يعمل بها.

القاعدة: استخدم تأثير الجماعة لتكسب، لكن لا تنخدع به.

مثال تاريخي:

في حملة أوباما 2008: استثمر أوباما في تأثير القطيع الإعلامي والاجتماعي على الشبكات، لكنه احتفظ لنفسه بتحليل استراتيجي عقلاني، ونجح دون الوقوع في غوغائية الجماهير.

***

حاذر النقطة العمياء

هو عمى التحيّز أو ما يُدعى  نقطة التحيز العمياء أو عمى التحيز (Blind Spot) وهو انحياز معرفي يتضمن إدراك انحياز الآخرين، والفشل (في نفس الوقت) في إدراك صاحبه أنه منحازٌ بدوره، وربما أكثر  من ذاك الذي يرى انحيازه؛ أيّ أن ترى أخطاء الآخرين ولا ترى أخطاءك. وتدلّ الدراسات على أن معظم الناس يظهرون نقطة عمياء للتحيز، بنسبة أكثر من 85٪. وفي هذا نوع من أنواع المُكابرة التي سرعان ما سترتد على صاحبها.

القاعدة: لا تظن أنك وحدك من يرى الحقيقة. كل شخص يملك تحيّزات.

مثال:

جورج بوش الابن وغزو العراق 2003: رأى الآخرون أخطاء التقدير الأميركي، لكنه ومجموعته وقعوا في نقطة عمياء تجاه ترويج كذبة “أسلحة الدمار الشامل” المفترضة. والتي ثبت فيما بعد أنها لم تكن صحيحة! كان انحيازًا مكشوفًا.

د. عماد فوزي شُعيبي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.