الحلقة 26
د. عماد فوزي شُعيبي
نواصل سرد النصائح التي تقدم إلى كبار القادة وكبار الإداريين وذلك بلا اعتماد على كتابنا القواعد النفسية للسلطة في تعديلاته الجديدة.
هنا نتابع قواعد المفاوضات:
الاعتذار عند الخطأ استراتيجي
“الاعتذار لا يغيّر الماضي، لكنه يوسّع أفق المستقبل.”
– لويس بوك
إذا ارتكبت خطاً ما أثناء المفاوضات قد يضر بالمفاوضات، فإن عليك الاعتذار بما يسمى (الاعتذار الاستراتيجي)، لكن لا تبالغ بالاعتذار بشكل يحط من قدرك. عليك أن تعتذر بكل صدق على أن لا يحتوي الاعتذار على أية مبررات أو أعذار أو افتراضات واهية تحاول أن تحافظ بها على ماء وجهك.
الاعتذار ليس ضعفًا بل أداة تفاوضية قوية عندما يُستخدم بذكاء. إذا ارتكبت خطأً قد يؤثر على مجرى المفاوضات، فاعتذر بصدق دون تبرير، لكن دون مبالغة تحطّ من هيبتك. الاعتذار هنا هو “تكتيك استراتيجي” يُعيد بناء الثقة ويُصلح الانكسار دون أن يفقدك احترام الطرف الآخر.
أمثلة تفاوضية سياسية:
اعتذار أنجيلا ميركل لليونان (2014)
عندما اتهمت ألمانيا بأنها سبب المعاناة الاقتصادية لليونانيين، اعتذرت ميركل للشعب اليوناني عن الألم، دون الاعتراف الكامل بالمسؤولية. هذا الاعتذار هدّأ الشارع اليوناني ومهّد لجولة مفاوضات جديدة مع الاتحاد الأوروبي.
اتفاق الطائف – لبنان (1989)
في خضم الانقسامات، قدّم بعض الأطراف اعتذارات رمزية عن “الإساءات السابقة” دون الاعتراف المباشر بالذنب، مما ساعد على خفض التوترات الطائفية وفتح باب التسويات.
مفاوضات أوسلو (1993)
في لحظة متوترة، اعتذر مسؤولون إسرائيليون للفلسطينيين عن ممارسات ماضية بعبارات محسوبة، مما أعاد الدفء النسبي وأمّن استكمال المباحثات.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
Starbucks بعد حادثة فيلادلفيا (2018):
بعد طرد شابين من أصل أفريقي من أحد الفروع، قدّم المدير التنفيذي اعتذاراً فورياً وواضحاً دون تبريرات، ما ساعد في إعادة الصورة الإيجابية للشركة وتمكين استئناف علاقاتها التفاوضية مع مجموعات حقوقية.
Toyota Recall Crisis (2010)
عندما ظهرت مشاكل في دواسات السرعة، قدّمت الشركة اعتذاراً عاماً استراتيجياً، مرفقاً بخطة عملية لإعادة بناء الثقة، مما أعاد قدرتها التفاوضية مع الحكومات والأسواق.
تحليل تطبيقي:
الاعتذار الاستراتيجي هو نوع من الذكاء الانفعالي. المفاوض القوي يعرف متى يعتذر ليصنع “انعطافة” في العلاقة وليس فقط لإزالة الذنب. فالاعتذار الحقيقي يفتح باباً أغلقه الغرور.
التوازن هو المفتاح: لا اعتذار فجاً يهدّ ثقتك بنفسك، ولا تبريراً يُغضب الطرف الآخر أكثر.
أحياناً يكون الاعتذار مجرّد أداة لتقليل الحدة، كأن تقول: “أعتذر إذا بدا كلامي مستفزاً… لم أقصد ذلك.”، وتنتقل فوراً إلى نقطة مشتركة لتمنع الغرق في العتاب
***
الغضب… ولكن مصطنعاً
“السيطرة على النفس لا تعني غياب الغضب، بل تعني توقيته.”
— أرسطو
قد يكون إظهار الغضب المصطنع مفيداً أحياناً، ولكن إذا تصرّفت عموماً بطريقة أكثر سيطرة على النفس وبتهذيب فسيكون لإظهار الإنفعال أو الغضب تأثيرٌ قوي جداً على خصمك، بحيث يحاول أن يرضيك، لأنه اعتاد عليك حليماً وهادئاً. و هنا لا تُكثر من الغضب وإلا ستفقد قيمته التفاوضيّة.
إظهار الغضب المصطنع – حين يُستخدم بحرفية – هو وسيلة ضغط تفاوضية فعّالة. المفاوض المعتاد على الاتزان إذا أبدى انفعالاً فجائياً، يُربك الطرف الآخر ويجعله أكثر ميلاً لتقديم تنازلات. لكن إن أفرطت في الغضب أو بدا حقيقياً، ستفقد قيمته كأداة وستظهر ضعيفاً.
أمثلة تفاوضية سياسية:
رونالد ريغان في مفاوضاته مع غورباتشوف (قمة ريكيافيك 1986)
في لحظة مفصلية، أبدى ريغان انزعاجه من المماطلة السوفييتية، رافعاً صوته بشكل مدروس، ثم هدأ فجأة. هذا الغضب المصطنع أحرج غورباتشوف ودفعه لتقديم تنازل في مجال الأسلحة النووية التكتيكية.
جمال عبد الناصر خلال مفاوضات الجلاء مع بريطانيا (1954)
أظهر ناصر غضباً واضحاً أثناء النقاش حول جدول الانسحاب، مما دفع البريطانيين لإعادة النظر بسرعة في الجدول الزمني، خشية انهيار الاتفاق برمّته.
رجب طيب أردوغان في منتدى دافوس (2009)
انسحابه الحادّ بعد مجادلة مع شمعون بيريز كان محسوباً لتوصيل رسالة سياسية للجمهور التركي والعربي، رغم أنه لم يكن جزءاً من مفاوضات مباشرة، لكنه أثّر على الوضع التفاوضي بين تركيا وإسرائيل لاحقاً.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
Steve Jobs ومفاوضاته مع شركات الإنتاج (Pixar – Disney)
كان يُظهر غضباً “تكتيكياً” عندما كانت المفاوضات تتجه لتقليص دور Pixar، ما كان يربك الطرف المقابل ويمنحه دفعة للتمسك بمطالبه بشروط أفضل.
Elon Musk في مفاوضات Tesla مع الموردين (2018)
أظهر انزعاجاً واضحاً في أحد الاجتماعات مع أحد كبار الموردين، ثم هدأ فجأة. وُصف ذلك لاحقاً بأنه تمثيل “مخيف ودقيق”، جعله ينتزع شروط تسليم أسرع دون تغيير في السعر.
تحليل تطبيقي:
الغضب المصطنع هو مثل “الوميض المفاجئ في سماء صافية”. إذا اعتاد الطرف الآخر هدوءك، فإن إظهار انفعال مفاجئ يُحدث زعزعة في مواقفه.
لكن المفتاح هو التحكم: لا تجعل الغضب يخرج من دائرة السيطرة، ولا تكرره كثيراً.
إذا استُخدم مرة أو مرتين، يصبح له أثر الدهشة، أما إذا تكرر، فيتحوّل إلى عادة تُفقدك الهيبة.
مثلاً، في بيئة تفاوضية تجارية، يمكنك أن ترفع نبرة صوتك فجأة عندما يتم تجاهل بند أساسي، ثم تتوقف وتقول:
“أعتذر، لكن هذا البند أساسي لبناء الثقة… ولن أتجاوزه.”
هذا ليس غضباً… بل هندسة سيكولوجية للفت الانتباه
***
راقب مزاجك الهرمونيّ!
“اعرف نفسك… حتى تعرف متى تنسحب.”
— سقراط
إذا كنت في مزاج منخفض لاعتبارات نفسية أو هرمونية، أعطِ أحداً من فريقك مهمة إدارة المفاوضات وتنحى جانباً حتى لا تخطئ، وابقَ صامتاً واستثمر صمتك لإرباك خصمك. هذا ما سيجعل الخصم يبحث عن سر ابتعادك أو صمتك ويجعله قلقاً من احتمالات الفشل جراء تأويل ابتعادك بأنه بداية نهاية المفاوضات.
المفاوض الجيد يُدرك أن حالته النفسية والجسدية تؤثر على أدائه. إذا كنت في مزاج منخفض (نتيجة إرهاق، اكتئاب، ضغط هرموني…)، فمن الحكمة أن تُسلّم زمام المفاوضات لعضو آخر من الفريق، أو تلوذ بالصمت المدروس. هذا الصمت قد يُفسّر من الطرف الآخر على أنه إشارة ضغط، مما يمنحك أفضلية دون أن تفعل شيئاً.
أمثلة تفاوضية سياسية:
ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد الثانية (2000)
عانى عرفات من الإرهاق الشديد خلال الجولات الأخيرة، لكنه اختار الانسحاب التكتيكي من بعض الجلسات ليترك فريقه يتولى القيادة. هذا الغياب جعل الجانب الأمريكي والإسرائيلي يتساءل عن نواياه، وأثار لديهم قلقاً من انهيار العملية.
أنجيلا ميركل أثناء مفاوضات أزمة اليورو (2015)
في لحظة توتر في مفاوضاتها مع تسيبراس رئيس وزراء اليونان، شعرت ميركل بالإجهاد، فتراجعت عن القيادة المباشرة وأوكلت إلى وزير ماليتها تقديم الشروط، مما جعل الطرف الآخر يعيد الحسابات، ويظن أن هناك تشدداً قادماً، لأن “صمت” ميركل بدا كتحفظ لا كضعف.
هنري كيسنجر في مفاوضات باريس مع الفيتناميين (1972)
كان يدير أحياناً جلسات الصمت المطوّل خلال لحظات توتر نفسي أو استنزاف ذهني. الطرف الآخر كان يفسر ذلك بأنه مناورة استراتيجية، رغم أنه كان يحتاج أحياناً فقط إلى إعادة تركيزه.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
Satya Nadella (CEO مايكروسوفت) في مفاوضات LinkedIn (2016)
في إحدى الجولات الحاسمة، لم يكن Nadella في أفضل حالاته الصحية، فترك كبار المفاوضين يديرون اللقاء، بينما جلس صامتاً يراقب. الخصم فسر صمته كعلامة على الحذر الشديد أو موقف حازم، ما أدى لتقديم بعض التنازلات.
Indra Nooyi (المديرة السابقة لـ PepsiCo)
عرف عنها أنها كانت تستبدل نفسها بأحد نوابها خلال فترات التعب أو الحالة المزاجية المنخفضة، معتبرة أن التفاوض بحاجة لحالة ذهنية عالية التركيز، وليس مجرد تمثيل قيادي.
تحليل تطبيقي:
المفاوضة هي معركة نفسية بقدر ما هي عقلية. فإذا دخلت معركة و”مزاجك في الحضيض”، فاحتمال أن تتخذ قرارات سيئة أو أن تفسر ما يُقال لك خطأ سيكون عالياً.
أفضل الحلول:
امنح أحداً من فريقك زمام الحديث مؤقتاً.
كن صامتاً… دع الآخرين يتخبطون في تأويل صمتك.
استخدم لحظة “الابتعاد” كوسيلة لتهديد غير مباشر دون كلام.
مثلاً، في شركة تفاوضية، انسحاب المدير التنفيذي من طاولة المفاوضات، دون توضيح، وترك فريقه يُكمل، يُفهم الآخرين على أنه:
“المدير غير راضٍ… وقد ننسحب كلياً.” وقد لا يكون الأمر كذلك
د. عماد فوزي شُعيبي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.