‏رسائل يومية إلى القادة السياسيين قواعد في السياسة كن مكيافيليًا… ولكن !

17

الحلقة الثالثة

د. عماد فوزي شُعيبي

‏على مدى عدة حلقات نوجه مجموعة من الرسائل إلى القادة السياسيين، آملين لهم ممارسة سياسية مُثلى:

‏تحكم السياسة في الممارسة أربع نظريات: المكيافيلية والأداتية والبراغماتية والوظيفية. وجميعها يعتمد مبدأ الواقع لا النظرية في التعاملات السياسية.

 لقد مرت السياسة بعدة مراحل:

١. مرحلة الفكر السياسي الأخلاقي الممتد من سقراط الى افلاطون فالفارابي وهي مرحلة ربطت السياسة ب (ما يجب أن يكون) ولهذا كانت أخلاقية وغير قابلة للتنفيذ. لأن ما يجب أن يكون يصعب أن (يكون دومًا ممكناً للتنفيذ وبصيغة أمثلية)؛ لأن الحكم الأخير فيه للواقع. وهذه مرحلة ما قبل الحداثة.

  1. مرحلة السياسة الواقعية التي غُلّب فيها مبدأ الواقع على الأفكار أو القيم وهي مرحلة الحداثة؛ حيث تعيّنت السياسة بناء على مبدأ الواقع باعتبارها فناً للممكن. وهذه المرحلة تميزت فيها النظريات الأربع : المكيافيلية والاداتية والبراغماتية والوظيفية.

‏ سنبدأ بالميكيافيلية (تعني فصل الذات عن الموضوع) مؤسسةً بذلك علم السياسة ، وللاسف الكثيرون لايعرفون من ميكيافيل الا (الغاية تبرر الوسيلة وهو ما لم يقله ميكيافيل أساساً لنظريته ما يبرز عدم معرفة البعض بعلم السياسة وفقاً لمبدأ الواقع).  فالميكيافيلية تعتمد مبدأ الواقع؛ أي القواعد اللازمة للتعامل مع الموجودات في الواقع. إنها ليست دعوة لسلوك لا إخلاقي في السياسة، بل دعوة إلى اعتماد مبدأ الواقع في التعامل مع الوقائع السياسية، وقواعد ما يجب أن يكون.

‏لا يوجد سياسي (أي ممارس للسياسة وليس محض مُنظر أو مهتم بالسياسة) ليس مكيافيليًا؛ بمعنى أنه يكون سياسياً بقدر ما يلتزم بالواقع والقواعد اللازمة المنطلقة من الواقع للتعامل مع هذا الواقع. وهي قواعد متحركة ديناميكية مثلما الواقع متغير. لكن هذا لا يعني أن يكون السياسي لا إخلاقيًّا في حياته اليومية، وفي ظهوره العام؛ ومع الآخرين، ‏لأنه يجب أن يكون موضع الثقة.

‏ولكن في الشأن السياسي يمكنه أن يناور وأحياناً يجب أن يناور، لا أن يكذب!

‏ فإذا أراد التنصل من إعطاء رأيّ ما، يمكن أن يقول سأحوّل هذا الأمر للمناقشه مع اللجنة الفلانية، وهو مبدأ الإحالة إلى الطرف الثالث؛ أي الطرف الوهمي الذي يرفع عنه مسؤولية الالتزام بما لا يستطيع فعله.

ف‏السياسي لا يقول نعم إلا إذا كان يريد التنفيذ، بشكل نهائي، ولهذا إذا كان مُرتابًا في أن المتغيرات في الواقع يمكن أن تجعله يتراجع، فإن عليه أن يقول (ربما)، أو يحيل الأمر إلى الطرف الثالث!

‏وفي حالات نادرة، ويجب أن تكون نادرة، عندما يضطر إلى التراجع بعد أن يكون قد أبرم إتفاقاً أو عقد عهداً، وذلك بسبب وقائع جديدة ومفاجئة على الأرض تستدعي ذلك التراجع، فإن عليه أن يشرح لمن اتفق معه التفاصيل الجديدة باسهاب مبديًا اعتذاراً (مع حسم). ‏لكنه لا يجب عليه أن يقول (لا) لأن (لا) تقطع الخطوط بينه وبين الآخرين، إلا إذا كان يريد ذلك بشكل واضح وصريح مع تحمل كل مستتبعاته العدائية!

 ‏تقوم قواعد المكيافيلية على إدارة المجموعات من البشر والتي تقوم على مبدأ علم النفس الجمعي. فما ينطبق على المجموعات، يختلف عن ما ينطبق على الأفراد. ولهذا فإن المكيافيلية تنصح ممارس السياسة أن يقيم مسافة بينه وبين الأفراد، ولكن ليس على أساس الاستعلاء، وإنما على أساس الهيبة!؛ لأن ممارسة السياسة تستدعي  ثنائية القائد والمَقود، وهذا ما يستدعي الهيبة، و لأن القائد يجب أن تنفذ أوامره، ولكن هذا لا يستدعي الاستئثار بالرأي، إذ يجب أن يعتمد على مجموعة من المستشارين الصادقين والذين يمتلكون عقلاً راجحًا وخبرةً عميقةً في الممارسة السياسية وثقافةً نوعية واستراتيجية. 

‏أن تكون مكيافيليًا يعني أن تمارس السياسة انطلاقاً من العقل البارد دون أن تكون هنالك عواطف في الفعل السياسي، لأن رجل السياسة مسؤول عن المصالح العامة. ولهذا فإنه مُطالب بأن لا يغلب مشاعره و انحيازاته الإيجابية أو السلبية على مواقفه السياسية العامة.

‏هذا لا يعني أنه لا يجب أن يكون حارّاً و دافئاً في علاقاته مع الآخرين، وخاصة مع طاقمه المباشر، حتى يستطيع أن ينال منهم أفضل إنجاز على مستوى الشأن العام، على أن يُبدي تلك الحرارة في علاقاته مع الجموع البشرية أيضاً.

ولكن عليه أن يحذر مما يسمى (عارض استوكهولم) والذي يعني بمجاز القول هنا: أن تكون عينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلة ، بمعنى أنه عندما يحب لن يرى عيوب من هم حوله. ومن الممكن أن يخدعوه ويؤثرون على المصالح العامة. القضية هنا ليست شخص السياسي، إنما ما يمثله من مسؤولية عن الواقع والشأن العام. هذا ما يُفهم من المكيافيلية التي لا تُعنى بشخص (الأمير) كما فُهمّ خطأً، إنما بما يمثّله من صون للمصالح العامة؛ أي الدولة في المآل الأول والأخير! الدولة كقاسم مشترك أعظم بين المواطنين.

وبنفس الوقت فإن انفعاله ضد شخص أو جموع يكون سلبياً لأن عين السخط تبدي المساويء، ولهذا فهو لا يرى إيجابيات من يتحامل عليه انفعالياً.

فعلى رجل السياسة أن يُحيّد مشاعره ما أمكن في الشأن العام؛ لأنه مسؤول عن الواقع أي عن مصالح الشعوب. وبنفس الوقت إذا كانت شخصيته مزاجية عليه أن يضبط ذلك المزاج؛ لأن البشر لا تتحمل مزاجيات بعضها البعض، كما أن المزاجية تقلل من الهيبة!

قلنا لايوجد سياسي ليس ميكيافيلياً.! نعم في الليل يلعن ميكيافيل، وفي النهار…يمارسه. بمعنى أن ممارسة السياسة تستدعي المكيافيلية، لكن الحياة العامة تستدعي الأخلاق.

الحقيقة أن ميكيافلي هو الشخص الأكثر تعرضاً للظلم عبر التاريخ. وقد ظلمه جُهّاله من الذين لا يعرفون شيئاً عنه ولم يقرأوه في العمق. فمن منظور السياسة والواقع  

ميكيافل يُعتبر بإجماع علماء السياسة”مبتكر علم السياسة الحديث”(راجع جان جاك شفاليية في كتابه أمهات الكتب السياسية)؛ فالعلم تعريفاً هو فصل الذات عن الموضوع، ووضع قوانين المجال العلمي الذي يتناوله. وهذا ما حاول فعله ميكيافل، الذي جرب أن يدرس كيفية نجاح الأمراء السابقين بسلوكهم وكيف فشلوا. فقام بتوصيف أفعالهم التي نجحوا بها على أنها (قوانين العلم السياسي والسلوك والحكم)، سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا (فاصلاً هنا الذات عن الموضوع) وبذلك أسس علم السياسة كعلم.  فالرجل كان يبحث عن وسيلة تجعل بلاده (إيطاليا) المجزأة والمتناحرة موحدة.

كانت قوانينه قاسية جداً لكنها كانت سياسية جداً؛ لأن السياسة -للاسف- لا تعرف الرحمة. فهو قد انطلق من أن البشر يحبون ويكرهون وانتقالهم من الحب إلى الكراهية سهل وبالعكس، ولذلك لا يجب على الحاكم أن يعتمد على الحب؛ فإن وُجد الحب كان بها، وإن لم يوجد كان عليه أن يُقيم الهيبة والرهبة. لأنهما (أي الهيبة والرهبة) يضبطان السلوك الجماعي للبشر، أما الحب أو الكراهية فهما سلوكان وجدانيان لا تتعامل بهما الجموع إنما يتم التعامل بهما فردياً.

كانت هذه انطلاقة قاسية على الأخلاقيات البشرية، فرفضها الأخلاقيون دون أن يضعوا بديلاً بخلاف محاولات (تطعيم) هنا وهناك للسياسة بالأخلاق والقيم ومحبة الكاريزما…ولكن عندما يجدّ الجدّ يُغلب السياسي لكي يُنجح الرهبة على الوجدان.

هذه الفكرة القائمة على طبيعة البشر(أي تبدّل السلوك والمزاج البشريين) هي التي جعلت الفيلسوف “هوبز” يعتبر الإنسان ذئبياً وهي فكرة متطابقة مع ميكيافل باعتبار أن البشر عندما تتهدد مصالحهم وأنانياتهم وأفكارهم، ينقلبون من الحب إلى الذئبية ويصبحون قتلة ومتآمرين ومعادين…

 ولهذا نصح ميكيافل الحاكم أن يكون أسطورة (لفرض الهيبة) وألا يعود إلى أصدقاء طفولته حتى لا يتذكروا أنه ليس أسطورة!!. فالهدف من الأسطورة فرض الهيبة على المجموع. والهدف ليس هيبة الحاكم بحد ذاته بل هيبة ما يمثله الحاكم؛ أي الدولة وهو ماساهم بتأسيس مبدأ مصلحة الدولة العليا:Raison dEtat .وكل تجاوز لهيبة الحاكم نحو استبداده هو من ذؤابات الميكيافيلية وتطبيقاتها الفردية، فهيبة الحاكم الديموقراطي هي أيضاً من صميم الميكيافيلية.

لدى ميكيافل الأولوية للواقع (وليس للفكرة) فهو أول من أخرج رأسه من الواقع ولم يُخرج الواقع من رأسه. فهو قد سمّى الواقع السياسي كما هو ولم يخترعه… ولهذا يُجمع على أنه مؤسس علم السياسة المُعاصر القائم على فصل الذات عن الموضوع.

أصرّ ميكيافل في قراءته لسلوك السياسيين على ان السياسة هي فن الممكن لأنها مرتبطة بالواقع ويجب عزلها عن الرغبات والقيم والأخلاق (التي بالتعريف ما يجب أن يكون) ولهذا أقام السياسة على أساس الواقع لا الرغبات ولا القيم والأخلاق التي لو أُمكن لها أن تتحقق لغدا العالم فردوساً، ولكن لأنها لا تتحقق يوجد المبشرون، وتوجد حالة الرغبة اليوتوبية (بمدينة فاضلة) بحكم أخلاقيّ محض، وهو ما لم يتحقق في تاريخ الإنسانية قط . ولهذا ففضيلة السياسة هي إقامة حكم جامع لكل البشر ومتوازن ومستقر؛ لأن البشر مزاجيون ولااخلاقيون أحياناً بمعنى أنهم لا ينفذون ما يجب أن يكون. فالمطلوب حكم بالأرض وليس حكما بالسماء.

اذ ليس المطلوب بالسياسة تحقيق مصالح الدولة (وليس الأمير مرة أخرى بل عبر الأمير) حتى ولو بالمراوغة.

المهم أن القواعد المكيافيلية لا يجوز للسياسي أن يطبقها في حياته المجتمعية إذ يجب ان يكون أخلاقياً وتكون وعوده قاطعة، ولهذا قيل لا يجوز نقل أخلاق المجتمع للسياسة وإلا لن تعمل ولا يجوز نقل أقواعد السياسة للمجتمع وإلا تم تدميره.

هذه الفويرقات (Nuances) يجب أن  تُقرأ جيداً سواء من القراء غير السياسيين أو ممن عانوا من السياسيين الذين قسوا وغالوا باستخدام الميكيافيلية نحو الشخصنة.

نعم قواعد الميكيافيلية قاسية لكنها المتعارف عليها في علم السياسة ولدى السياسيين وفي كل العالم.

لذا لا يجب على الحاكم أن يتعامل إلا مع (المصالح) ويعني بها مصلحة الدولة وليس منافع الحكّام. وهذا الخلط بين الأمرين لم يكن من الميكيافيلية بشيء. بل من اتساع دائرة استخدام الميكيافيلية بشكل خاطئ، لتصبح استغلالاً للدولة من منظور(السلطة والتسلط). ولهذا ليس دقيقاً اعتبار ان ميكيافل كان منظِّر الإستبداد لأن كل الديموقراطيات اليوم ميكيافيلية أيضاً، أي تعتمد طرق حكم المجموع الذي لا يتطابق بحال من الأحوال مع التعامل من (فرد لفرد).

حاول ميكيافل أن يجعل الحاكم قوياً حتى تقوى الدولة فطالبه بأن يعتمد الكفاءات والأقوياء في الحروب وعند استقرار الدولة لأن المهم هو استمرارية الدولة وليس استمرارية الحاكم.

ما نقلناه أنفاً ليس رأينا …إنما وقائع السياسة. ننقلها وقد لا نُحبها ولا نستسيغها ولا تناسبنا . ولكن العلم أن تقول عن الشيء ما هو عليه دون أن تقحم رغباتك ومشاعرك.

د. عماد فوزي شُعيبي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.