زيارة ترامب إلى السعودية: شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد
بقلم د. ابراهيم العرب
حظيت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية منذ بداية ولايته الرئاسية الثانية باهتمام واسع على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ تجسدت خلالها سياسات اقتصادية وأمنية ودبلوماسية جديدة تعكس مدى التلاقي الاستراتيجي بين واشنطن والرياض. تعود أهمية هذه الزيارة إلى كونها الأولى خارجيًا لترامب في ولايته الثانية، ما يمنحها دلالة رمزية قوية على مكانة السعودية ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية.
الجذور التاريخية للعلاقة الأميركية–السعودية
تعود العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة إلى أكثر من تسعين عامًا، منذ توقيع أول اتفاقية نفط بين أرامكو وشركة ستاندرد أويل الأميركية عام 1933. منذ ذلك الحين، تطورت الشراكة من علاقة تجارية تستند إلى النفط إلى شراكة شاملة تشمل الأمن ومكافحة الإرهاب والتكنولوجيا والطاقة المتجددة. وشهدت السنوات الماضية، وخصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي، ما رسخ الثقة المتبادلة بين الطرفين.
إعلان استثمارات قياسية وتوسيع الفرص الاقتصادية
جاءت الزيارة مصحوبة بإعلانٍ غير مسبوق عن استثمارات سعودية في الولايات المتحدة بقيمة 600 مليار دولار، تشمل مشاريع في مجالات الطاقة التقليدية والمتجددة، وقطاع البتروكيميائيات، والذكاء الاصطناعي، والرعاية الصحية، والبنية التحتية. وقد وقعت الرياض وواشنطن مذكرات تفاهم واتفاقيات تعاون اقتصادية في منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي في الرياض، تعكس رغبة السعودية في تنويع قاعدة استثماراتها والابتعاد عن الاعتماد المفرط على النفط، بالتوازي مع سعي الإدارة الأميركية إلى تعزيز النمو وخلق فرص عمل.
وخلال كلمته أمام المنتدى، أكد ترامب أن “العلاقات بين واشنطن والرياض صخرة للاستقرار في الشرق الأوسط”، مشيرًا إلى أن الشراكة الاقتصادية سيعقبها تعاون في مجالات أخرى، وأنه سيعمل على جعل هذه العلاقات أقوى من أي وقت مضى.
قمة الرياض: توقيع اتفاقيات شاملة
وقد اجتمع ترامب بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في قصر اليمامة، حيث وُقّعت مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي شملت:
- التعاون الدفاعي والأمني: اتفاقيات لتحديث القوات السعودية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومشاركة الموارد في مواجهة الإرهاب.
- الطاقة النووية السلمية: مذكرة تفاهم لإتاحة التكنولوجيا الأميركية للسعودية في مجال المفاعلات النووية المخصصة للأغراض المدنية.
- التعليم والتدريب التقني: برامج مشتركة لتطوير الكوادر السعودية في المجالات التقنية والبحث العلمي.
- البنى التحتية والنقل: دعم المشاركة الأميركية في مشروع مترو الرياض وتطوير المطارات والطرق السريعة.
وقد وصف المتحدث باسم الخارجية الأميركية هذه القمة بأنها “تاريخية”، متوقعًا المزيد من البيانات المشتركة التي تعزز التنسيق بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي.
انعطافة دبلوماسية: بوادر لقاء ترامب–الشرع
أثار الإعلان عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا والتقاء ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض جدلاً واسعًا. فهذا الإعلان، الذي جسّد على أرض الواقع، يعتبر أول لقاء بين رئيس أميركي ونظيره السوري منذ ربع قرن. وقد سبق أن رحّبت وزارة الخارجية السورية بهذه المبادرة، معتبرة إياها “خطوة نحو إنهاء اليأس ومعاناة الشعب السوري وفتح آفاق جديدة للحوار”.
هذا التطور يشير إلى رغبة أميركية في إعادة تقييم استراتيجيتها تجاه الملف السوري، وربما إدخال متغيرات جديدة على مسار التسوية، حيث تلعب السعودية دور وسيط محوري بين دمشق والمعارضة السورية المدعومة من حلفاء آخرين في المنطقة.
المردود الأمني والإقليمي
على الصعيد الأمني، شدد الطرفان على أهمية تعزيز قدرات الدفاع المشترك، في مواجهة التحديات الإقليمية مثل النفوذ الإيراني والتمدد الروسي. وأكد ترامب خلال لقائه بولي العهد أن الولايات المتحدة ستزوّد السعودية بأحدث التقنيات العسكرية، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والدبابات والطائرات والمسيرات، وذلك في إطار شراكة استراتيجية تمتد لسنوات قادمة.
كما جرى التأكيد على استمرار التنسيق داخل مجلس التعاون الخليجي، وأن السعودية ستكون في طليعة الجهود الرامية إلى الحفاظ على أمن الطاقة والممرات البحرية الحيوية، بما يضمن استقرار أسواق النفط والغاز العالميتين.
ردود الفعل الدولية والعالمية
لقيت الزيارة ترحيبًا من حلفاء أميركيين في المنطقة، مثل مصر والأردن والبحرين، الذين رأوا فيها دعمًا لتعزيز الاستقرار والتنمية. أما الخصوم الإقليميون كإيران مثلاً، فاكتفوا بإطلاق بيانات تحفظية، محذرين من مغبة ما وصفوه بـ”التدخلات الخارجية” في شؤون دول المنطقة.
أما على الصعيد العالمي، فقد رأى المحللون أن الشراكة السعودية–الأميركية ستسهم في ضبط ميزان القوى في الشرق الأوسط، وأن استغلال الرياض 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي سيعزز النمو ويخلق آلاف الوظائف، ما ينعكس إيجابًا على مسار الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة.
المملكة في ظل رؤية جديدة
لقد أبرزت الزيارة الأبعاد الجديدة للسياسة السعودية التي أصبحت تُبنى على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيدًا عن تبعية النفط أو الضغوط الخارجية. فقد أثبتت المملكة، عبر مواقفها التاريخية، مثل قيادة التحالف الدولي لتحرير الكويت عام 1991 وتعاملها الحازم مع تداعيات الربيع العربي، أنها قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة تصب في مصلحة الأمن الإقليمي.
وولي العهد الأمير محمد بن سلمان أكد في تصريحاته أن الاقتصاد السعودي الأسرع نموًا ضمن دول مجموعة العشرين، وأن العلاقات مع الولايات المتحدة تمتد لأكثر من تسعين عامًا، معبرًا عن تطلعه لتطوير هذه الشراكة في كافة المجالات.
نحو فصل جديد
ختاماً، تأتي زيارة ترامب إلى السعودية لتؤسس لفصل جديد في العلاقات الثنائية، مبني على شراكة اقتصادية ضخمة، وتعاون أمني واستراتيجي، وانفتاح دبلوماسي غير مسبوق تجاه قضايا المنطقة، خصوصًا الملف السوري. وفي ظل هذه الدينامية، تبدو المملكة أكثر استعدادًا لتبوّء دور الزعامة الإقليمية، بينما تستعيد أميركا حضورها الاستراتيجي في الشرق الأوسط عبر حليف رئيسي يملك القدرة على التأثير في توازنات الطاقة والأمن.
إن مستقبل العلاقة السعودية–الأميركية، بعد هذه القمة، سيعتمد على مدى التزام الطرفين بتنفيذ الاتفاقيات المعلنة، واستمرارية التنسيق السياسي والأمني، إضافة إلى قدرة الرياض على جذب استثمارات جديدة في إطار رؤيتها 2030، وحرص واشنطن على دعم شركائها في المنطقة ضد التهديدات المشتركة. ومع هذه المعادلات، يبدو أن المشهد الإقليمي مقبل على تحوّلات مهمة، قد تعيد رسم خريطة التحالفات وتجدد التوازنات في الشرق الأوسط.
د. ابراهيم العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.