طرابلس بين المجد الغابر والانـسداد السياسي

19

مصباح العلي
على أبوابِ الانتخاباتِ النيابية، يعودُ الضجيجُ ذاته: برامج وخطط ووعود، تُنثر كالغبار في الهواء، تُرى ولا تُمسك. لكنّ كل هذا الصخب لا يُخفي هزالة التمثيل النيابي الراهن، ولا يبدّد حقيقة أنّ مدناً بكاملها تُدار بمنطق الصدفة السياسيّة. فليس طبيعيّاً ولا مقبولاً أن يتولّى أشخاصٌ مغمورون مهمّة تمثيل مدينةٍ بحجم طرابلس، في ظلّ قانونٍ انتخابيّ مركّب، يحوّل التمثيل إلى عملية حسابية بحتة، ويختزل الإرادة العامة إلى حاصلٍ انتخابيٍّ بارد. وهذا حال لبنان برمّته، وإن كانت طرابلس تحديداً تحمل خصوصيّة لا تشبه سواها.
ففي طرابلس، يشتدّ السؤال: كيف نُقارب الاستحقاق المقبل؟ وما الذي يمكن أن ينهض بالمدينة من واقع تبدّل فيها كل شيء إلا الفقر؟
تغدو طرابلس اليوم أكثر بؤساً من تاريخها نفسه. المدينة التي عرفت المرفأ الأول على الساحل الشرقي للمتوسط، والتي رأَت الطائرة “تحطّ على المياه”، وشهدت انطلاق القطار إلى باريس من محطّة طرابلس… كل هذا المشهد الحداثيّ في مطلع القرن العشرين انقلب مع الزمن إلى عنوانٍ واحد: المدينة الأفقر في حوض المتوسط.
وتتعمّق الأزمة أكثر حين يتبيّن أنّه يستحيل على أيّ مرشّح، مهما امتلك من النوايا أو الطموحات، أن يضع رؤية مستقبلية واقعية وقابلة للتطبيق لانتشال المدينة من واقعها المتراكم والمعقّد. فالمشاكل البنيوية التي تُكبّل طرابلس تتخطّى قدرات الأفراد، وتحتاج إلى ما هو أبعد من سرديات انتخابية أو وعود براقة. لذلك يغدو لزاماً على المرشحين احترام عقول الناخبين قبل إغراقهم ببيانات طنانة رنّانة لا تُطعم خبزاً ولا تصنع أملاً. فاحترام الناس يبدأ بالصدق، لا بتزويق الكلمات.
تضافرت عوامل كثيرة حتى بلغ واقع طرابلس ما هو عليه.
أبرزها فقدان الدور الوظيفيّ: من كونها ولايةً تدير عمق الشام، إلى العاصمة الثانية في الجمهورية اللبنانية، قبل أن تنقلب عليها النزاعات، وتلتهمها الصراعات، وصولاً إلى الطامة الكبرى في الحرب الأهليّة المشؤومة.
طرابلس، بكل تعقيداتها الديموغرافية، تقف اليوم عند حدود الزمن، وكأنها عالقة بين عصرين: الجماد جزءٌ من تكوينها السياسيّ، والركود سمةٌ من سمات إدارتها الواقعية.
اندثرت زعامة عبد الحميد كرامي الشعبيّة إلى غير رجعة، وأفل نجم الطبقة الاقتصادية التي شكّلت يوماً رافعة المدينة، بينما تراجعت النخب الثقافية والاجتماعية إلى أثر بعد عين.
ما بقي من طرابلس… ذكريات تتحسّر على مجدٍ مضى؛ تاريخٌ محشورٌ بين دفّتي كتب، ومحاولاتٌ خجولة تعاند الحاضر وتعكس الواقع، كأنّ المدينة في صراع دائم مع نفسها: بين ما كانت عليه، وما لم تعد قادرة على أن تكونه.
مصباح العلي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.