فحيلي “للشرق” تعديلات قانون السرية المصرفية أقرّت تحت وطأة ضغوط دولية لكنها شكلت خطوة أولى نحو الشفافية والمساءلة
كتبت ريتا شمعون
إضطر البرلمان اللبناني الذي اعتاد في غالبيته على رفض الإصلاحات الى التصويت قي 24 نيسان من الشهر الماضي على رفع السرية المصرفية، حيث أقرت الهيئة العامة لمجلس النواب نصاً يتطابق الى حدّ كبير مع المشروع المحال من مجلس الوزراء، فيمنح القانون الهيئات الرقابية والهيئات الناظمة للمصارف وتحديدا مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع حق الوصول الى المعلومات المصرفية، ويتضمن بنداً لتطبيق المفعول الرجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدور القانون مما يتيح التدقيق في الهندسات المالية السابقة.
إن هذا التشريع خطوة أساسية، تفسح في المجال، لإطلاق عملية إصلاح المصارف الذي إنطلق البحث بمواده القانونية في لجنة المال والموازنة في البرلمان، لا سيما المادة 37 التي تعتبر أن قانون إصلاح المصارف غير نافذ لحين اقرار قانون الانتظام المالي الذي يضع المودعين في أولوية المسار.
وقد رحّب نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي ميغيل كلارك، وهو المسؤول عن ملف لبنان في الصندوق بإصلاح السرية المصرفية، فهل لبنان فعلاً أمام فرصة تاريخية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي والمواطنين؟
وكان للدكتور محمد فحيلي الباحث في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال” OSB” في الجامعة الأميركية في بيروت وخبير المخاطر المصرفية، رأي حول قانون السرية المصرفية مشيرا في حديث لجريدة” الشرق” الى أنه بعد الإنهيار المالي الذي بدأ عام 2019 لم يعد من الممكن الدفاع عن استمرار الحصانة المصرفية الشاملة في لبنان ،خصوصا مع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) وضياع حقوق مئات آلاف المودعين، واتهامات متصاعدة بتبييض الأموال وتهريبها خارج النظام.
في هذا السياق، يقول فحيلي، اتت التعديلات على بعض المواد الأساسية في قانون السرية المصرفية الصادر 1956 ، وقانون السرية المصرفية وقانون التقد والتسليف، لا استجابة تلقائية لرغبة إصلاحية محلية، بل تحت وطأة ضغوط دولية وكمحاولة لتفادي العزلة المالية ، وتحقيق حدّ أدنى من الشفافية المطلوبة للعودة الى النظام المالي العالمي.
لكن الأسئلة كبيرة ولا تزال قائمة : هل هذه التعديلات كافية؟ وهل تشكل نقلة نوعية نحو بناء نظام مالي خاضع للمساءلة؟ أم انها محاولة التفاف ناعمة على جوهر الإصلاح الحقيقي؟
واعتبر فحيلي ، أن التعديلات تشكل خطوة أولى نحو الشفافية والمساءلة، إلا أن الجدل سرعان ما احتدم حول فعاليتها، خصوصا لجهة سريانها الزمني وأثرها الرجعي، مفندا المواد القانونية على الشكل التالي :
أولاً: شكّل تعديل المادة 150، بموجب القانون رقم 306\2022 ، نقطة تحول مهمة ، فقد ازال الإمتياز المطلق الذي كانت تتمتع به المصارف في إطار السرية المصرفية ، وفتح الباب أمام مصرف لبنان ، ولجنة الرقابة على المصارف، والجهات المفوضة من قبلهما ، للإطلاع على الحسابات المصرفية من دون قيود.
الأبرز في هذا التعديل أنه نصّ على مفعول رجعي يمتد لعشر سنوات سابقة من تاريخ صدور القانون، وذلك في ما يتعلق بملفات تخصّ إعادة هيكلة المصارف، غير ان الإبهام لا يزال يلفّ مدى إنطباق هذا الأثر الرجعي على التحقيقات القضائية ، أم انه محصور فقط بالإجراءات الرقابية.
ثانيا: أن التعديلات التي طالت الفقرتين (ه) و(و) أتاحت للجهات الرقابية إمكانية طلب معلومات من دون الحاجة لتحديد مسبق لهوية صاحب الحساب.كما نصّت بدورها ، على مفعول رجعي لمدة عشر سنوات، سائلاً فحيلي، هل تشمل هذه الصلاحيات كل أنواع التحقيقات، أم تحصر بالرقابة المؤسسية فقط؟ وهل يمكن الاستناد اليها أم انها تفتقر الى الغطاء القانوني الواضح لذلك؟
ثالثا: ان الإشكالية الأهم في التعديلات الأخيرة على قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف، تكمن في الصياغة المبهمة التي تناولت مبدأ المفعول الرجعي، فبينما ينصّ الدستور اللبناني، كما معظم النظم القانونية المقارنة، على ان القوانين لا تطبق بأثر رجعي، خصوصا في الشق الجزائي، إلا بنصّ واضح وصريح، جاءت التعديلات الأخيرة غامضة وغير حاسمة في هذا الشأن.
نعم، أشير الى مفعول رجعي يمتد لعشر سنوات، لكن من دون توضيح ما إذا كان هذا الإمتداد الزمني يشمل الملفات القضائية ذات الطابع الجنائي ، أم انه يحصر في إطار الإجراءات الرقابية والإدارية فقط.ويسأل فحيلي، في هذا السياق، ما الذي يمكن أن نتوقعه من المصارف، في غياب التفسير الرسمي الحاسم ، سواء من المجلس الدستوري أو الهيئة العامة لمحكمة التمييز ، متوقعا أننا سنكون أمام طيف واسع من ردود الفعل المصرفية.
وشرح فحيلي قائلاً:
مصارف ستعتمد نهج الإفصاح الشامل والتحوّط القانوني، بدافع الخوف من الملاحقة لاحقاً، أو لتحسين صورتها أمام الجهات الدولية.
مصارف أخرى، ربما متورطة في شبهات أو التي تأوي حسابات سياسية حساسة، ستتمسك بتفسيرات ضيقة وتتحصن وراء النصوص المبهمة، لتفادي الإنكشاف أو تسهيل التحقيقات.
وهذا ما ينذر بتفاوت خطير في التطبيق بين مصرف وآخر، ما يقوّض مبدأ المساواة، ويجعل العدالة إنتقائية، فبدلاً من ان يشكل القانون أداة توحيد وضبط، يتحول الى مساحة رمادية يوظفها كل طرف بما يناسب مصالحه، هنا تكمن الحاجة الى موقف تشريعي أو قضائي حاسم، وإلا سنبقى في دوامة مألوفة: قوانين تسنّ، لا لتطبق ، بل لتراكم فوق غيرها، وتستعمل أحيانا كسلاح في نزاعات سياسية، أو كواجهة في معارك دولية حول الشفافية ، من دون ان تغيّر فعليا سلوك النظام المالي أو بنيته المتحجرة.
وأضاف، لكن رغم هذا التوسع الظاهري، يبقى واقع التطبيق رهنا بنوايا المؤسسات المعنية، وقدرتها على تفعيل هذه النصوص.
وعن أموال المودعين يقول فحيلي، خلال السنوات التي سبقت الإنهيار المالي، تحولت أموال المودعين الى ” عاهرة الاقتصاد اللبناني” يتهافت الجميع على نهشها دون حسيب أو رقيب، فيما بقي المودع الحلقة الأضعف في معادلة جشع منظمة، تتخفى وراء قانون السرية المصرفية، ويرى، أنه لم يعد جائزاً أن تبقى المصارف بؤرة شك، أو ينظر اليها كأداة لطمس الحقيقة ، المطلوب هو استعادة الثقة عبر إعادة تعريف دور المصرف، من متواطىء الى شريك، من محصّن الى خاضع للمحاسبة ومن صندوق مغلق الى رافعة للنمو.
ولتحقيق ذلك، يرى فحيلي، أن لبنان يحتاج الى نظام مصرفي جديد، وعقد مالي واجتماعي جديد، يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمودع، وبين المصرف والمواطن، على أساس الثقة لا التواطؤ ، الشفافية لا التستر، المساءلة لا الحصانة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.