لبنان والبابا ليو و”نوسترا إيتاتي”

15

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

في ذكرى صدور وثيقة “نوسترا إيتاتي” Nostra Aetate (تشرين الأوّل 1965) عن المجمع الفاتيكانيّ الثاني، قرّر البابا ليو القيام بزيارة الأراضي المقدّسة انطلاقاً من لبنان، لتكون الأولى له. وسيحقّق بذلك ما لم يستطع أن يحقّقه البابا الراحل فرنسيس الذي طالما أعرب عن رغبته بزيارة لبنان، أسوة بما فعله ثلاثة من البابوات السابقين: بولس السادس ويوحنّا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر. إلّا أنّ ظروف لبنان الأمنيّة السيّئة حالت دون ذلك، حتّى توفّاه الله.

يحرص البابا الجديد ليو على ترجمة الأسس والقواعد التي أقرّها المجمع الثاني، وخاصّة ما يتعلّق منها بالعلاقات مع الإسلام واليهوديّة، وبالعلاقات بين الكاثوليكيّة والكنائس الأخرى (الأرثوذكسيّة والإنجيلية). ذلك أنّ هذه العلاقات قبل عام 1965 (أي قبل قرارات المجمع التي أقرّتها وثيقة نوسترا إيتاتي) كانت سلبيّة وإلغائيّة، وبعد صدور الوثيقة وفي ضوئها أصبحت على درجة عالية من الإيجابيّة والانفتاح الإيمانيّ.

يتطلّع البابا ليو إلى بناء جسور روحيّة جديدة مع العالم الإسلامي عملاً بما نصّت عليه الوثيقة، واستكمالاً للمسيرة الانفتاحيّة التي أطلقها البابوات السابقون الثلاثة (يوحنّا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر وفرنسيس).

ترك البابا يوحنّا بولس الثاني بصمات عميقة في تنفيذ مقرّرات “نوسترا إيتاتي” بالدعوة إلى سينودس من أجل لبنان، بهدف أن يحمل لبنان تلك المقرّرات إلى العالم العربي الذي هو جزء منه، ومنه إلى العالم الإسلامي الأوسع. وترك البابا بنديكتوس بصماته من خلال السينودس من أجل الشرق الأوسط الذي أكّد فيه على أمرين أساسيَّين هما الحرّيّة الدينية والمساواة في المواطنة.

وثيقة الأخوّة الإنسانيّة

أمّا البابا فرنسيس فقد ترك بصمة عميقة جدّاً في وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها مع إمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيّب (أبو ظبي 2019)، والتي تُعتبر الترجمة الأشمل لروح وثيقة “نوسترا إيتاتي” من حيث إنّها جمعت بين الإسلام والمسيحيّة في مهمّة إنسانية مشتركة، وهي خدمة الإنسان لذاته الإنسانية من دون التوقّف أمام شكل إيمانه أو حتّى عدم إيمانه.

يتطلّع البابا ليو إلى مواصلة هذه المسيرة. فهو من حمَلة رسالة البابا فرنسيس الذي اختاره وعيّنه كاردينالاً على خلفيّة المبادرات الإنسانية التي قام بها عندما كان أسقفاً في الولايات المتّحدة. وهو التعيين الذي أهّله لمنصب البابويّة.

من أهمّ وثائق التّجديد في الفقه المسيحيّ

تُعتبر وثيقة نوسترا إيتاتي (التي يحرص الفاتيكان على مشاركة كنائس الشرق في إحياء ذكراها بالعمل المشترك على تنفيذ بنودها بين المسيحيّة والمسيحيّة وبين المسيحيّة والإسلام) من أهمّ وثائق التجديد في الفقه الديني المسيحي، سواء داخل الكنيسة أو خارجها. ولذلك الاحتفال بذكرى صدور الوثيقة يتجاوز الإشارة إلى تجديد التزامها، إلى ما هو أكثر أهميّة، أي إلى تجديد تأكيد أنّ العلاقات المسيحية – المسيحية والعلاقات المسيحية – الإسلامية تقوم على الأخوّة الإيمانيّة بالله الواحد الذي نعبده جميعاً، كما جاء في الوثيقة.

لن تكون زيارة البابا ليو التعبير الوحيد عن تجديد التزام هذه الوثيقة، فقد أوعز الفاتيكان إلى كنائس الشرق (وربّما العالم) بإحياء ذكرى صدور الوثيقة (تشرين الأوّل 1965) لإحياء ثقافة الإيمان بالتزام ما ورد فيها.

لقد كان من بين العاملين على صياغة الوثيقة البابا بنديكتوس السادس عشر (الذي كان أستاذاً جامعيّاً ومرجعاً للّاهوت المسيحي). وكان من بينهم أيضاً البابا يوحنّا بولس الثاني الذي يُعتبر حامل لواء الانفتاح على رسالات السماء الأخرى، وخاصّة الإسلام. فهو الذي أعطى بلديّة روما الإذن لبناء مسجد روما الكبير. وهو الذي طلب منها تقديم الأرض هديّة لبناء المسجد.

اعتراض كرادلة على الموقف من اليهوديّة

الظاهرة السلبيّة الوحيدة التي صدرت عن المجمع الفاتيكانيّ الثاني تمثّلت باعتراض مجموعة من الكرادلة على قرار يتعلّق بالموقف من اليهوديّة. فقد قرّر المجمع إلغاء الإدانة الجماعيّة لليهود بجريمة صلب السيّد المسيح، وحصر الإدانة بالمتورّطين فقط. عارض هذا القرار مجموعة صغيرة من الكرادلة إلى حدّ الانشقاق عن المجمع، وذلك استناداً إلى نصوص دينية معتمدة.

عام 1096 مثلاً ارتُكبت خلال أسابيع قليلة، ربّما، أوّل مجزرة ضدّ اليهود لمناسبة الاحتفال “بالجمعة العظيمة”. حدث ذلك في ألمانيا (قبل قرون من ولادة هتلر والنازيّة)، وكان القتل يجري تحت شعار “الانتقام لدم المسيح”.

بين عامَي 1881 و1924 هاجر إلى الولايات المتّحدة الأميركية من دول أوروبا الشرقية وحدها حوالي مليونَي يهوديّ. كان حكم الإدانة الجماعية بصلب السيّد المسيح سبباً لعقوبة جماعيّة دائمة. ولا يزال الكثير من المسيحيّين يؤمنون حتّى اليوم بأنّ صلب المسيح جريمة لا تُغتفر.

مع ذلك استمرّت حركة المعارضة طويلاً. إلّا أنّ الفاتيكان بادر التزاماً منه بالقرار إلى الانفتاح على المرجعيّات اليهوديّة في العالم، على غرار ما جرى مع المرجعيّات الإسلاميّة.

من هنا أهمّية وثيقة “نوسترا إيتاتي” التي يحرص الفاتيكان على الاحتفال بالذكرى الستّين (1965-2025) لصدروها، والتي تشكّل عنوان الزيارة المقبلة للبابا ليو للشرق الأوسط من البوّابة اللبنانيّة أيضاً.

محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.