من سرقة القرن إلى ما بعدها

42

بقلم علي الصراف

على امتداد العقدين الماضيين دخلت إلى العراق موارد تكفي لتحويله إلى جنة من جنان الرخاء إلا أنه صار مزبلة وجحيماً يغمره العوز حتى لم تعد فيه صناعة تعمل ولا زراعة توفر أسباب الحياة.

أدهشني، وأثار تساؤلاتي فيديو قصير لرجل شيعي من العراق يقول أمام الكاميرا والمايكروفون: “يا عمي، لا تليق بهم. الحكم للشيعة لا يليق بهم. أنا أقول لك. خليهم يرجعوها لأهلها. لأنهم ناس كلها عصابات وحرامية. والله ما يسوون شي. أقول لك، هذه كلها بناها صدام. هذا (الشارع) بلّطه صدام. هذه البنايات بناها صدام. هم جابوا لنا مشروع واحد، ونجحوا به (هذا سني، هذا شيعي)، وظلوا هم بالحكم. عمي، لا تليق بهم، (قسماً) بالقرآن، لو وحي ينزلهم تصبح به سورتهم، ما تصيرون ولا يليق بكم الحكم”. يمكنك أن تتجاهل الغضب. ولكن هل يعقل بالفعل أن يكون “ممثلو” الشيعة عندما يتولون الحكم “ناس حرامية وعصابات؟” هل هذا منطقي بالنسبة إلى ممثلي أيّ مذهب ديني؟ وهل يجوز لمذهب مثل البروتستانتية أو البوذية أن يوصم بشيء كهذا؟ ولماذا أكثر من يهاجم أحزاب الشيعة، هم عامة الشيعة أنفسهم؟

الجواب عند “ممثلي” الشيعة أنفسهم. فمن طبيعة “المذهب” نفسه أنه يقوم على “مراجع”. هذا حكيم، وذاك صدر. هذا خامنئي، وذاك حائري. هذا شهرستاني، وذاك أصفهاني أو سيستاني. وهكذا. وللمراجع “مقلّدون” وأتباع. أي أنهم، بطبيعتهم، أحزاب وزمر. وعلى الرغم من أنها تتقاسم المنهوبات الكبيرة مع بعضها البعض، إلا أن منهوباتها الأخرى قائمة من الناحية الرسمية على مبدأ “المحاصصة”. وهذا نمط من عمل العصابات. حسينياته، تتعدد لأن لكل فريق منهم “حسين” خاص به. ومثلها تتعدد مواكب “اللطميات”، ولكل حارة من حاراتهم “موكب” ينافس غيره من “المواكب الحسينية”. ولئن تحسب أنهم يبكون على “حسين” ما، فإنهم يبكون على نصيبهم من “الأجر”. والأجر هو “الشفاعة”. والاعتقاد السائد، على امتداد الفقه المذهبي كله، هو أنهم مهما ارتكبوا من المعاصي والموبقات، فإن “حب الحسين” سوف يشفع لهم. وهو ما يُرخّص الجريمة والفواحش، ويبرر للميليشيات أن تفعل ما تشاء. فلا تعجب من “سرقة القرن” التي تمت في عهد مصطفى الكاظمي. ولا تعجب من مئتي ضعف من أضعافها تمت في عهد نوري المالكي. الأولى كانت نهباً لـ2.5 مليار دولار. والثانية كانت نهباً لـ400 مليار دولار، قيل إنها “ضاعت من الدفاتر”.

وهناك امتداد “فقهي” للطبيعة الزُمرية في المذهب، هي أن “باب الاجتهاد” ظل مفتوحاً. وهذا أمر لا شك أنه مثير للسجال. فدلك لم يكن اجتهاداً لأجل العودة بسواقي حوادث الأيام إلى النهر، وإنما شق النهر إلى فروع، والفروع إلى سواقٍ، حتى ليكون لكل ساقية إمام، وبالتالي، لكل مزراب نهّاب وكذّاب.

والعراق يُحكم من ميليشيات شيعية منذ العام 2003 حتى الآن. ولا حاجة لإحصاء الفشل على كل وجه من وجوه الحياة.. لا توجد رؤية موحدة. لأن لكل فريق تصوره الخاص، ومرجعه الخاص. ليس في العراق وحده، وإنما في إيران أيضاً. فبالرغم من أن هناك “وليا فقيهاً” واحداً يدين له الجميع بالولاء، إلا أن الحرس الثوري شيء، والمخابرات الإيرانية شيء آخر. والبلاد تتقاسمها تنظيمات ومنظمات فرعية ولكل منها مشاريعه الخاصة. تشمل هذه المشاريع معظم الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية. وبالرغم ممّا كانت تملكه إيران من موارد وعائدات، إلا أنها ظلت بلداً متخلفاً وفقيراً، تغمره البطالة، والتضخم، وانهيار الخدمات الأساسية.

وليس هناك في العراق “ولي فقيه” يُحتكم إليه لكي يفقر كما تفقر إيران. وإنما لديه مجموعات يحتكم كل منها إلى زعيمه الخاص، الذي يقتسم لها ويقتسم لنفسه، فلا يبقى من المال ما يمكن أن يوفر فرصة للتنمية أو البناء.

ولقد دخلت إلى العراق على امتداد العقدين الماضيين موارد تبلغ نحو تريليون ونصف التريليون دولار. وهي ما كان يكفي لتحويل العراق إلى جنة من جنان الرخاء والثراء. إلا أنه صار بلداً يغمره العوز، وينهش عظامه الفشل. والمشكلة في التنمية هي أن عائداتها غير منظورة، وغير مباشرة، بينما عائدات النهب سريعة. إذ إن الفائدة من البنى التحتية تحتاج زمناً لكي تتحول إلى مصدر من مصادر الرفاهية العامة. بينما صفقة مزوّرة واحدة تعطي الفاسدين ما يسعون إليه من دون إبطاء. فيذهبون بالمال لشراء عقارات في الخارج، أو ليكتنزوه في حسابات خاصة بأسماء مزورة وجوازات متعددة.

لا يحتاج الواقع في العراق إلى تفسيرات نظرية. المرئي والمجرب من طبائع الميليشيات ومنافساتها على “الحصص” كافٍ بحد ذاته للقول إن من طبيعة هذا المذهب هي أنه مذهب زمر وجماعات. ولكي تعيش، فلا بد لها أن تستولي على ما يوفر لها أسباب البقاء. وعندما تسيطر على مقاليد الدولة، في أيّ مكان، فإن نهب الدولة واحد من أسهل السبل.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.