هل كان حزب الله يحلم بمشروع قانون مماثل لمشروع الحشد الشعبي؟

14

بقلم د. ابراهيم العرب

مع إعلان الحكومة اللبنانية، مؤخراً، عن قرارها التاريخي بنزع سلاح “حزب الله” خلال مهلة أقصاها نهاية العام الجاري، تعود إلى الواجهة تساؤلات لطالما طُرحت، وإن بصوت خافت: هل كان الحزب يحلم، أو لا يزال، بتشريع يكرّس سلاحه ويمنحه غطاءً قانونيًا دائمًا على غرار مشروع قانون “الحشد الشعبي” في العراق؟ وهل كان يسعى، ضمن خططه بعيدة المدى، لتحويل جناحه العسكري إلى مؤسسة رسمية موازية للجيش اللبناني، بحماية قانونية ودستورية؟

يأتي هذا التساؤل في ضوء الجدل الكبير والمستمر في العراق حول محاولة تمرير قانون يمنح “الحشد الشعبي” شرعية كاملة، بما يضفي عليه طابعًا مؤسساتيًا شبيهًا بالقوات المسلحة. فعلى الرغم من الجهود المكثفة التي تبذلها قوى “الإطار التنسيقي” الشيعية لإقرار القانون، إلا أن المشروع اصطدم بممانعة أميركية صارمة، ورفض من قوى سنية وكردية، ما أدى إلى تعثره رغم امتلاك مؤيديه للأغلبية البرلمانية.

وقد عبّر القائم بالأعمال الأميركي في بغداد، السفير ستيفن فاجن، بوضوح، عن مخاوف بلاده من أن يؤدي هذا القانون إلى ترسيخ كيان عسكري عقائدي موازٍ للدولة، يعزز النفوذ الإيراني في العراق، ويقوّض السيادة الوطنية. وهي المخاوف ذاتها التي لطالما ارتبطت بـ”حزب الله” في لبنان، باعتباره النسخة اللبنانية من الحشد الشعبي، لا سيما في ضوء تشابه البُنى الأمنية والعقائدية والدعم الإيراني المباشر.

يمتلك “حزب الله” هيكلاً عسكرياً متكاملاً، وجهازاً أمنياً موازيًا، ويُدير شبكة من المؤسسات الخدمية والاجتماعية والتعليمية، ما يجعله عملياً دولة ضمن الدولة. هذا الوضع، الذي تفاقم بفعل ضعف الدولة اللبنانية وتواطؤ بعض القوى السياسية، شكّل لعقود تربة خصبة لتكريس واقع السلاح الخارج عن الشرعية. لكن التحوّل النوعي الأخير، بإعلان الحكومة نزع سلاح الحزب، ينذر بتغيير المعادلة، ويضع الحزب أمام لحظة حاسمة من تاريخه.

من الناحية السياسية، لا يبدو أن لبنان قابلٌ لاستنساخ تجربة “الحشد الشعبي” حتى لو وُجدت نوايا لتحقيق ذلك. فالعراق، رغم هشاشته، يقوم على حكم أغلبية شيعية تُمسك فعليًا بالسلطة، بينما لبنان محكوم بتوازن طائفي دقيق نصّ عليه اتفاق الطائف، الذي يشدّد على حصرية السلاح بيد الدولة، وعلى منطق التوافق في اتخاذ القرارات المصيرية. أي أن تشريع وجود عسكري خارج الدولة في لبنان، كما هو الحال في مشروع قانون الحشد، يصطدم بحواجز دستورية ومجتمعية لا يمكن القفز فوقها.

وعلى الرغم من أن “محور المقاومة” بقيادة إيران ينظر إلى “حزب الله” و”الحشد الشعبي” بوصفهما ركيزتين استراتيجيتين في مشروعه الإقليمي، فإن الفروقات بين الدولتين (العراق ولبنان) تقف عائقًا أمام أي محاولات لإنتاج نسخة لبنانية من مشروع القانون العراقي، ولو بصيغة معدلة.

لكن الحزب، الذي لطالما استفاد من الغطاء الإقليمي، يدرك اليوم أن هامش المناورة بدأ يضيق. فالولايات المتحدة، الرافضة كليًا لأي صيغة تشرّع سلاحه، لن تسمح بتحويل لبنان إلى نسخة من العراق أو إيران. بل قد تستخدم كامل ترسانتها من العقوبات والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية لإجبار الدولة اللبنانية على استعادة سيادتها، ولمنع تمدد النفوذ الإيراني.

أما داخليًا، فإن المجتمع اللبناني الذي عانى من ويلات الحرب والانهيار الاقتصادي، بات أكثر ميلاً لفكرة الدولة الواحدة القادرة، ولرفض منطق الدويلات والسلاح غير الشرعي. وهذه الدينامية الاجتماعية الناشئة، حتى وإن بدت بطيئة، تمثل تحوّلاً حقيقياً في المزاج العام، بدأت تُدركه القوى السياسية، وتُبنى عليه قرارات مفصلية كقرار الحكومة الأخير.

السؤال اليوم لم يعد: هل يحلم الحزب بالدخول في نقاش حول الاستراتيجية الدفاعية للبنان؟ بل أصبح: كيف سيتعامل مع القرار الحكومي بنزع هذا السلاح؟ وهل سيتمكن من تقديم تنازلات تُبقي على حضوره السياسي دون جناحه العسكري؟ أم أنه سيختار المواجهة، مما يضع البلاد على شفير تفجير داخلي جديد؟

إن التحدي الجوهري يكمن في آلية تنفيذ هذا القرار. فهل لدى الحكومة خطة واقعية لإخضاع السلاح للشرعية؟ هل هناك آلية تنفيذية واضحة، وآلية رقابة ومحاسبة؟ والأهم، ما هو موقف “حزب الله” نفسه؟ هل سيُبدي مرونة، كما فعل في مراحل سابقة عند اشتداد الضغوط عليه؟ أم سيعتمد سياسة الهروب إلى الأمام عبر تصعيد الخطاب أو افتعال أزمات إقليمية؟

الخيار بيده اليوم، لكنه ليس مفتوحًا إلى ما لا نهاية. فالتحولات الإقليمية والدولية، والانسحاب التدريجي للحماية الإيرانية، والضغوط الاقتصادية، جميعها عوامل تفرض على الحزب إعادة حساباته. وإذا لم يُبادر إلى الانخراط في مشروع الدولة، فقد يجد نفسه في عزلة تامة، داخليًا وخارجيًا، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على استقراره أولاً، وعلى وحدة لبنان ثانياً.

في الختام، إذا كان “الحشد الشعبي” يجد صعوبة في تمرير مشروع قانونه داخل العراق رغم البيئة المؤاتية، فإن “حزب الله” في لبنان يواجه تحدياً أكبر في بيئة مغايرة ومعقّدة. لقد انتهى زمن الأحلام بمأسسة السلاح، وجاء زمن القرار: إما الدولة، أو الفوضى. وللمرة الأولى، لا يبدو أن المجتمع الدولي – ومعه الأغلبية الساحقة من اللبنانيين – مستعد للتساهل بعد اليوم. فما كان حلماً… أصبح خطراً يجب احتواؤه.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.