هل هي آخر الحروب؟ (1)
بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
بدأت في غزّة، وستنتهي في طهران. هذا ملخّص ما تعيشه المنطقة منذ هجوم “حماس”، صبيحة 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023. لكنّها ليست حرباً تقليدية، بل حملة مركّبة، متعدّدة المراحل والحلقات، ليس هدفها ردع إيران وحسب، بل تفكيك البنية الأمنيّة والعسكرية والعقائدية لكامل المحور، من أذرعه الرئيسية إلى “رأس الأخطبوط”، بحسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت.
هي فصول حرب واحدة، ممنهجة، ومترابطة، لا مواجهات متقطّعة، من أنفاق “حماس” إلى شبكات “الحزب”، ومن نظام الأسد إلى برنامجَي إيران النوويّ والصاروخيّ، تتقدّم فيها إسرائيل بخطى محسوبة. تبني كلّ ضربة على نتائج سابقتها، وتمهّد لكلّ اغتيال باغتيال، أكان الهدف فرداً أو تنظيماً أو ساحة.
الفصل الأوّل: شرارة يحيى السّنوار
هزّ هجوم 7 أكتوبر أسس الأمن الإسرائيلي، وأطلق في الوجدان اليهودي العامّ “طوفان الذاكرة”، بوصفه أكثر الأيّام دمويّة في التاريخ اليهودي منذ الهولوكوست.
الكثير من تفاصيل هذا الهجوم الدمويّ، المشحون بالرمزيّة، وحقيقة ما خطّط له يحيى السنوار بالفعل، مقابل ما قد يكون وُلد في ساعته، مجهول. الأكيد، والمعلن، أنّ المرشد الإيراني علي خامنئي كان رأس الدولة الوحيد في العالم الذي بارك الهجوم ونتائجه، بلا أيّ تحفّظ، حيال الضحايا المدنيّين. قامر خامنئي بخيار أنّ هذا الحدث سيستعيد لبلاده قدرة الردع بعد سنوات من الاستنزاف المهين، وأسقط من حساباته أنّه سيطلق في إسرائيل ردّ الفعل غير المتوقّع الذي أطلق.
لم تكن حرب إسرائيل على غزّة ردّاً عسكريّاً وحسب، بل لحظة ولادة عقيدة جديدة: “لن يخرج أيّ وكيل إيراني من هذه الحرب سالماً”. مُحِيت غزّة من الوجود أو تكاد، وفُكّكت القيادة العسكرية لـ”حماس” وانتهت الجبهة الجنوبية، التي لطالما اعتبرتها إيران صمام ضغط استراتيجي، على حدود إسرائيل.
لم يكتفِ نتنياهو بجولة قصف جوّي لغزّة كما في المرّات السابقة. فقرار العمليّة البرّيّة في تشرين الثاني 2023، وصولاً الى احتلال رفح في أيّار 2024، مروراً بتصفية شبه كاملة للقيادة الميدانية لـ”حماس”، سمح لإسرائيل بتغيير وجه غزّة وموقعها في أيّ دولة فلسطينية مستقبلية، إن تحقّقت.
ما لبث أن تزامن مقتل يحيى السنوار مع مرور سنة وتسعة أيّام على “طوفان الأقصى”، وتوازى مع تصفية حسن نصرالله قبله بفارق نحو ثلاثة أسابيع، لتُستكمل بذلك خريطة الصراع على رمزيّات وسرديّات المعركة وذاكرتها وسرديّات المستقبل، التي اختصرها نتنياهو بأنّها حرب “لتغيير الشرق الأوسط”.
الفصل الثّاني: شرارة حسن نصرالله
في اليوم التالي لاشتعال غزّة، فتح “الحزب” جبهة جنوب لبنان بحدود مدروسة، تحت عنوان إسناد غزّة. راهن نصرالله أنّه يستطيع إشغال إسرائيل وتشتيت تركيزها، غير عالمٍ أنّ عدوّه منذ اليوم الأوّل لنهاية حرب تمّوز 2006، عمل بلا كلل، على تكوين أكبر بنك أهداف ممكن عن “الحزب” وبنيته وأفراده وقادته وسلاسل إمداده. أجّلت حكومة بنيامين نتنياهو خططاً لضرب “الحزب” بشكل حاسم كان اقترحها في الأسابيع الأولى وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في الأيّام التي تلت إعلان “الحزب” حرب الإسناد.
منذ كانون الثاني 2024، بدأت إسرائيل تصفية القادة الميدانيين في الصفّين الثاني والثالث في الجنوب والبقاع وبعلبك. كشفت هذه العمليّات عن عمق الاختراق الأمنيّ لبنية “الحزب” العسكريّة، وتهاوت أسماء قادة الرضوان وعزيز وبدر وحيدر ووحدات المسيّرات والصواريخ وغيرها.
بيد أنّ نقطة التحوّل الرئيسية كانت اغتيال القائد العسكري لـ”الحزب” فؤاد شكر، في نهاية تمّوز 2024، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في أعقاب اتّهام إسرائيل لـ”الحزب” بقصف بلدة مجدل شمس في الجولان ومقتل 12 مدنيّاً بينهم أطفال قبل الاغتيال بأيّام. نقل اغتيال أحد أقدم وأخطر قادة “الحزب” بدقّة جراحيّة، طبيعة المعركة إلى مستوى غير مسبوق من التصعيد، منذراً بحرب مفتوحة، سرى بين طيّات تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وصفٌ بشأنها بأنّها حرب اجتثاث.
أذهل الوصول إلى شكر (متبوعاً خلال ساعات بقتل إسماعيل هنيّة في طهران) قادة “الحزب” وأحبط الأمين العامّ حسن نصرالله، بشهادة ابنه جواد في إحدى الإطلالات التلفزيونية. وفيما كان يستعدّ “الحزب” بعد نحو شهر على الاغتيال لتنفيذ ردّه عبر هجوم صاروخي واسع النطاق على إسرائيل، شنّت 100 طائرة مقاتلة إسرائيلية، ضربة استباقية دمّرت آلاف قاذفات الصواريخ التابعة لـ”الحزب” والتي كانت موجّهة للإطلاق.لم تكد تمضي أسابيع ثلاثة على صدمة الضربة الاستباقية، حتّى استفاق “الحزب” واللبنانيون والعالم على عمليّة تفجير “البيجرز” وأجهزة الووكي توكي بأيدي نشطاء “الحزب” ومسؤوليه، يومَي 17 و18 أيلول، التي استهدفت نحو 4,000 عنصر من نخبة “الحزب” يغطّون أنشطة مختلفة داخل المنظّمة.
فاقمت هذه العمليّة، وكيفيّة تفخيخ “البيجرز”، القناعة بأنّ “الحزب” مخترقٌ حتّى نخاعه، وأنّ الحرب هذه المرّة ليست من النوع الذي اعتاده. وصلت المعنويّات إلى أدنى مستوياتها وساد الارتباك وشعور عارم بالشلل. خلال الأيّام العشرة التي تلت عمليّة “البيجرز”، اغتيل إبراهيم عقيل، ومعظم قادة “فرقة الرضوان”، وهو ما مهّد للحظة الانهيار القياديّ الشامل حين توّجت إسرائيل عمليّة اجتثاث “الحزب” بقتل الأمين العامّ التاريخي حسن نصرالله في 27 أيلول.
يتبع غداً
نديم قطيش
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.