أخطاء وخطايا في دعوة “الحزب” للسّعوديّة للحوار
بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
تفضح دعوة الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم للسعوديّة إلى فتح “صفحة جديدة”، تحوّلاً اضطراريّاً موجعاً. بدا أنّ من كتب النصّ أضاف وأزال وعدّل ونحت كثيراً من الصيّغ والكلمات حتّى تأتي الرسالة، التي تفاخر قاسم بأنّها “علنيّة”، لتراعي حساسيّات داخل “الحزب” قبل مراعاة أصول التعاطي والتخاطب مع دولة أساسيّة لدى الدوائر العربية والإسلامية والدوليّة كالمملكة العربيّة السعوديّة.
لم يخطئ “الحزب” في التوجّه إلى الدولة السعوديّة مباشرة، وهو الذي ما برح، قلباً وقالباً ومشروعاً، يعتبر نفسه “دولة” كاملة الأوصاف، وإن تواضع ودعا يوماً، على لسان زعيمه الراحل السيّد حسن نصرالله، إلى أن تكون دولته تلك جزءاً من الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية. ولئن تغيّر الزمن، وتبدّلت موازين القوى، وتراجع نفوذ دولة الوليّ الفقيه، وارتخت قبضة “الحزب” على لبنان، فإنّ ذلك لم ينَل من إيمان “الحزب” بتفوّقه الدائم وقدرته على مخاطبة الدول وعقد التفاهمات معها.
من يجرّد النصّ الذي قدّمه قاسم من مفرداته التبريريّة، تسهل عليه ملاحظة أنّ “الحزب” وصل في تحوّلاته المتلكّئة إلى درجة مناشدة المملكة انتشاله من مأزقه. قد يكون في ذهن قيادة “الحزب” الحائرة أنّ مصاب الدوحة التي قصفتها إسرائيل في 9 أيلول الجاري من شأنه أن يضع “الحزب” والخليج والسعوديّة في خندق واحد. فأمّا الرياض وقد عقدت تحالف دفاع مشترك مع باكستان، فإنّ “الحزب” يشعر بأنّه معنيّ بأن يجد له مكاناً داخل المشهد الجديد.
ربط للنّزاع؟
بغضّ النظر عن خطيئة تطاول “الحزب” على لبنان وحكومته وعلى السعوديّة وقيادتها من خلال التوجّه المباشر إلى دولة شقيقة من غير المرور بالدولة اللبنانية، يُضاف ذلك التجاوز إلى ديباجة قدّمها “الحزب” من خلال أمينه العامّ تكشف، إذا افترضنا صفاء النوايا، قلّة دراية وعلم في آداب التخاطب، قبل أن نستنتج العجز عن فهم معادلات الممكن والمستحيل في موازين القوى والعلاقات الدولية الكبرى. فقاسم الذي يتوسّل فتح الصفحة الجديدة يغطّي على لغة الضرورة المضمرة بلغة الشروط المعلنة.
يتفضّل زعيم “الحزب” بالاقتراح الودود “لأنّه ليس لدينا وقت”. وتعتبر “دولة الحزب” أنّ هناك “إشكالات” مع الدولة السعوديّة. وحتّى لا تشعر السعوديّة بغبطة مفرطة من العرض، فإنّه ينقذ الموقف بالإشارة إلى أنّ الأمر لا يعدو كونه تجميداً للخلافات “على الأقلّ في هذه المرحلة الاستثنائيّة”، بما يفهم أنّ “الحزب” يَعِدُ بالعودة إلى الخلاف حين تتيح ذلك ظروف مرحلة مقبلة.
يشترط قاسم أن يكون الحوار “مبنيّاً على أنّ إسرائيل هي العدوّ”. ولئن تحتشد المعاني بافتراض مسبق بشأن رؤية السعوديّة لإسرائيل، فإنّ قاسم يمعن في الارتباك، مؤكّداً من دون مناسبة أنّ “سلاح المقاومة وجهته العدوّ الإسرائيلي، وليس لبنان، ولا السعوديّة، ولا أيّ مكان، ولا أيّ جهة في العالم”. هل من داعٍ هنا لتفنيد ذلك الادّعاء، والالتهاء بعرض جردة ما ارتكبه هذا السلاح من جرائم وآثام ضدّ لبنان وسوريا والعرب والخليج والسعوديّة والعالم؟
يعرض “الحزب” شروطه في 6 نقاط. في توجّهه للسعوديّة يظهر بيت القصيد: “الضغط على المقاومة هو ربح صافٍ لإسرائيل”، ملمّحاً إلى أنّ غياب “المقاومة” نذير دور آتٍ على بقيّة الدول. بمعنى آخر يعتبر “الحزب” أنّ بقاءه ضمانة أمان للمملكة. والواضح أنّ حذاقة أملَت السعيَ إلى التقرّب من الرياض وإهداءها منّة الحوار وفتح الصفحة الموعودة الجديدة. ولئن تُبرز واشنطن وموفدوها إلى بيروت مزيداً من المخالب والضغوط والشروط لفرض حصريّة السلاح في لبنان بيد دولته، فإنّ نصّ قاسم يستدرج السعوديّة إلى التدخّل لردّ تلك الضغوط وحرمان دولة لبنان من بديهيّات تلك الحصريّة.
خطاب موجّه للبيئة الحاضنة
ألحق “الحزب” الوصايا للسعوديّة في علوم الأخلاق السياسيّة، فوراً، وعلى نحو لا يخلو من رابط مقصود، بدعوة الكلّ في لبنان، “حتّى الذين وصلت الخصومة بيننا وبينهم إلى ما يُقارب العداء”، إلى “عدم تقديم خدمات لإسرائيل، وأن لا يكونوا خُدّاماً لإسرائيل، من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون”. فحتّى حين يقرّر “الحزب” “العضّ على الجرح” والزعم أنّه يتبنّى خطاب ودّ وحوار، لا يبارح “الحزب” وظيفته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحتكار الوطنيّة وممارسة هواية التخوين حتّى بعدما أثبتت الوقائع حجم الخيانات التي اخترقت هياكله.
واضح من نصّ خطاب قاسم أنّه يتوجّه إلى بيئته وقاعدته ولا يتوجّه إلى السعوديّة. يدرك تماماً أنّ السعوديّة غير معنيّة بتوجّهه كحزب لبنانيّ إليها بقصد ازدراء دولة لبنان. ثمّ إنّ “الحزب” بصفته تابعاً تماماً، وفق ما أقرّه الأمين العامّ الراحل، لإيران ووليّها الفقيه، يفترض أن يكون متّسقاً مع اتّفاق بكين الذي أبرمته إيران مع السعوديّة تحت رعاية الصين في آذار 2023 بعد جلسات حوار أجراها البلدان في بغداد تحت رعاية رئيس الحكومة العراقيّ آنذاك مصطفى الكاظمي. بمعنى آخر، في بكين فتحت السعوديّة صفحة جديدة مع إيران، ولا صفحات جديدة تُفتح مع حزبها في لبنان.
في 15 من الشهر الجاري التقى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بوليّ عهد السعوديّة الأمير محمّد بن سلمان على هامش القمّة العربيّة الإسلامية في الدوحة. في 16 منه زار علي لاريجاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الرياض. في 19 منه نفّذ قاسم أمر عمليّات وارداً من طهران. الأرجح أنّ إيران أرادت أن تذكّر السعودية بما تمتلكه من نفوذ لدى حزبها في لبنان وتهديها من هناك رسالة يُراد منها ودٌّ. أن لا تعلّق السعوديّة على دعوة قاسم فذلك من بديهيّات الأمور. لكن ربّما آثرت إيران، بعدما اطّلعت على تلك الدعوة نصّاً ومضموناً وشكلاً ولهجة، الصمت متأمّلة كم فقد حزبها العمق والحنكة والحصافة وحرفة الكلمات.
محمد قواص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.