“أنجز حر …ماوعد”!!

28

بقلم فؤاد الهاشم
إسمه “تشارلز جون هوفام ديكنز” وهو روائي انجليزي وناقد اجتماعي ومن عظماء من كتب الرواية فى العصر الفيكتوري بالقرن الثامن عشر قرأت له أيام الصبا “اوليفر تويست“ و “ترنيمة عيد الميلاد” وفي ايام الشباب قرأت له “ أمال عظيمة“ و ”ديفيد كوبر فيلد”! من اقواله الجميلة: ”الوعد اذا كسر لايحدث صوتا بل يحدث الكثير من ..الالم”!
قبل سنوات طويلة وكثيرة اتعبنى عدها تشكلت حكومة كويتية جديدة وجاء سمو رئيسها بوزراء جدد كانوا يتمخطرون فى بشوتهم اللامعة وغترهم المنشاة ودشاديشهم المتسربلة امام عدسات التلفزيون الحكومى وهم يقسمون بأن “يؤدوا أعمالهم بالامانة والصدق” لينتهي ببعضهم الى محكمة الوزراء والبعض الاخر الى ..السجن المركزى!!
لتمر بعدها الشهور والسنوات وحكومة تلد أخرى دون ان ندرك ان جملة هامة قد سهى علينا اضافتها لهذا النص وهي: ”وأن أفي بوعودي وقسمي“!!
ثم اطلق وزير الاسكان الجديد فى تلك الحكومة الوليدة وعدا قاطعا بإنجاز مائة الف وحدة سكنية للمواطنين خلال اربع سنوات .. فقط!! فى تلك الليلة داخل الجريدة لم افتح قلمي لأكتب المقال اليومى المعتاد بل فتحت الآلة الحاسبة وقررت ان أحسبها بالارقام كيف سيستطيع معاليه ان يفي بوعده وينجز المائة الف منزل فى 48 شهرا ؟!!
بعد حساب عددها بالسنة ثم حسابها بالأشهر ثم بالاسابيع ثم بالايام ظهرت النتيجة وهي انه يحتاج لبناء وحدة سكنية كاملة خلال.. 30 ساعة فقط!! سألت رجال مقاولات عن إمكانية ذلك هندسيا وفنيا فأفتوا بإستحالة ذلك لأن صبة الاساسات -وحدها – تحتاج لإسبوع على الاقل حتى تجف خراساناتها فما بالك ببقية ..البناء؟!!
أغلقت الآلة الحاسبة وفتحت القلم وكتبت المقال اليومى حول ماقاله معاليه وذكرت فيه كل الحسبة وارسلته للمخرج فخرج من عنده الى الطباعة ثم المونتاج ثم الى .. المطبعة!
من عادة الجريدة زمان ان تصدر طبعة اولية محدودة ومبكرة لايتجاوز عددها الألف نسخة قبيل منتصف الليل لتوزع علينا – نحن العاملين بداخلها – وعلى نخبة مختارة للاطلاع ..المبكر!!
المقال كان منشورا في مكانه المعتاد على الصفحة الاخيرة وماهي الا اقل من ساعة حتى اطلع عليه معالي الوزير المقصود فأرعد وأبرق وشخر ونخر وهاج وماج واتصل برئاسة التحرير و ”هذا المقال مو زين في موضوعه وكاتبه موزين فى طرحه وانتو موزينين فى ..نشره”!! استجابت الصحيفة سريعا وصدر الامر بإزالته من بقية الطبعات التى وصلت الى عشرات الآلاف من النسخ لتصدر الجريدة فجرا وتوزع على المشتركين ومراكز التوزيع والصفحة الاخيرة ليس بها ..المقال “الملعون”!!
مازلت حتى اليوم وبعد مرور اكثر من ربع قرن على السالفة محتفظا بنسختين من ذلك العدد: الاولي بالمقال والثانية .. بدون!!
تعاقبت الاعوام بعدها بطيئة متثاقلة احيانا وسريعة كالبرق احيانا أخرى وفقا للاحداث الحلوة او المرة حتى وصلنا الى عام 2014 ! وقتها كان قد مضى عام على “ تفتيشي” فلا مقالات ولاكتابة ولاهم يحزنون حين جاء وزير اسكان جديد واطلق تصريحا قال فيه: ”بيت لكل مواطن خلال 10 سنوات وسنبني 200 الف وحدة سكنية” !!
ثم تلاه وزير آخر في حكومة أخرى فى عام 2025 قال فيه: ”سنبنى 170 الف وحدة سكنية خلال عشر .. سنوات”! لكنه اراد ان يتميز عن زميليه فأضاف: ”وثلاث مدن ..جديدة”!! كانت العرب فى الجاهلية تقول: ”أنجز حر .. ماوعد” ويوصف من يخلف وعده بكونه يحمل صفة من صفات .. اللئام! ويقول الباري عز وجل فى كتابه العزيز: ”واذكر فى الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد“ ويقول سبحانه وتعالى: ”وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا” اما الحديث الشريف فيقول: آية المنافق .. ثلاثا اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا أؤتمن خان”! ولو كان معنا فى زمننا هذا الشاعر الفحل عمر بن أبى ربيعة لقال: ”ليت – حكومتنا – أنجزتنا ماتعد/ وشفت أنفسنا مما .. تجد”!!
في صيف عام 72 كنت جالسا أشرب “عصير ليمونادة” في كازينو الشجرة الواقع على ضفاف النيل فى قاهرة المعز مع “حبى الوحيد” صافيناز – في ذلك الزمن – وهى تسألني: ”إمتى حنتجوز يافؤشة زى ماوعدتني”؟! فقلت لها: ”لما اروح الكويت وأكوًن .. نفسي”!!
وزراء الاسكان عندنا كسروا قلوب الآلاف من المواطنين قبل اكثر من ربع قرن ومثلما كسرت انا قلب .. صافيناز قبل اكثر من نصف .. قرن !!
فهل أصلح ان أكون وزيرا … للاسكان؟!!
فؤاد الهاشم

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.