أنقرة وتل أبيب: خصومة “اليوم التّالي” في غزّة!

7

بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
أعادت الحرب على غزّة العلاقات التركيّة – الإسرائيليّة إلى نقطة الصفر تقريباً، ولا يزال الخلاف قائماً على إمكان مشاركة أنقرة في ترتيبات أمنيّة أو قوّة حفظ سلام دوليّة ترسَل إلى القطاع، لتنفيذ خطّة دونالد ترامب. ما هي أبرز أسباب الرفض الإسرائيليّ للوجود العسكريّ التركيّ في غزّة؟
لا يمكن تجاهل الشقّ الإسرائيليّ في رسالة الرئيس رجب طيّب إردوغان، وهو يتحدّث عن الدور والموقع التركيَّين في الإقليم: “من سوريا إلى غزّة، ومن الخليج إلى الصراع بين روسيا وأوكرانيا، أصبح من المستحيل بناء أيّ معادلة دوليّة من دون أخذ تركيا بعين الاعتبار. أصبحت تركيا قوّة لا يمكن تجاهلها في معادلات السلام والاستقرار العالميّة”.
فشلت إسرائيل في قطع الطريق على وجود أنقرة أمام طاولة شرم الشيخ الرباعيّة، وتريد تكرار المحاولة تجاه رفض دخول القوّات التركيّة إلى غزّة، في إطار القوّات الدوليّة المزمع تشكيلها للمشاركة في تنفيذ بنود خطّة ترامب في القطاع.
قال إردوغان قبل أسبوعين إنّ بلاده جاهزة للمشاركة في عمل هذه القوّات، لكنّ بنيامين نتنياهو ردّ في اليوم التالي: “غزّة هي مدينتنا، يا سيّد إردوغان، وليست مدينتكم”.
بطاقة إسرائيليّة حمراء
تحدّثت واشنطن عن أهمّية الدور والجهود التركيّة خلال هذا المسار، لكنّها فشلت حتّى الآن في تجاوز العقبة الإسرائيليّة والبطاقة الحمراء التي يرفعها نتنياهو بوجه وجود وحدات تركيّة ضمن هذه القوّة. “يستدعي تشكيل هذه القوّة أن تشعر إسرائيل براحة التعامل مع الدول والقوى المشاركة”، يردّد وزير الخارجية الأميركيّ ماركو روبيو.
في هذا السياق، يمكن سرد أسباب رفض إسرائيل للوجود العسكريّ التركيّ في غزّة، على الشكل الآتي:
1- الاعتبار الجيوسياسيّ: تخشى تل أبيب أن يمنح وجود أنقرة في غزّة تركيا دوراً سياسيّاً واقتصاديّاً متزايداً في منطقة تراها جزءاً من مجالها الحيويّ، وهو ما قد يؤدّي إلى تشكيل اصطفاف إقليميّ ودوليّ مضادّ لها، ويعمّق عزلتها على الساحة الدوليّة.
2- البُعد التركيّ: ترى إسرائيل أنّ حزب “العدالة والتنمية” سيستثمر هذا الدور في تعزيز موقعه السياسيّ والشعبيّ داخليّاً، مستخدماً ملفّ غزّة كورقة تعبئة داخليّة ونقطة قوّة إقليميّة، وهو ما يرفع من رصيد أنقرة في الشارعين العربيّ والإسلاميّ.
3- الاعتبارات الأمنيّة والتحكّم والسيطرة: ترتاب تل أبيب في حياد أنقرة بسبب علاقتها الوثيقة مع حركة “حماس” واستضافتها بعض قياداتها. وتخشى أن يتحوّل أيّ وجود عسكريّ تركيّ إلى نفوذ دائم يحدّ من سيطرتها الأمنيّة على القطاع. تنطلق المقاربة الإسرائيليّة من فلسفة الحصر والضبط، وترفض إدخال أيّ لاعب غير مضمون إلى مسرح عمليّات بالغ الحساسيّة، خشية المفاجآت والتداعيات الأمنيّة غير المتوقّعة.
4- تراجع مكانة إسرائيل الإقليميّة: يقلق صنّاع القرار الإسرائيليّ من أن يؤدّي دخول تركيا على خطّ غزّة إلى تقويض مكانة إسرائيل كقوّة عسكرية إقليميّة حرّة الحركة. يهدّد هذا الأمر الاصطفاف الأمنيّ الذي بنته تل أبيب في جبهة شرق المتوسّط خلال الأعوام الأخيرة.
5- البعد الإقليميّ – المصريّ: تخشى إسرائيل أن يُسهم الدور التركيّ في تحفيز تعاون تركيّ – مصريّ أوسع بشأن غزّة، بما يفضي إلى نشوء محور إقليميّ جديد يعيد خلط الأوراق ويقيّد هامش المناورة الإسرائيليّ في ملفّات الإقليم.
الصّدام بين مشروعَين
من هنا يعكس الخلاف التركيّ – الإسرائيليّ تصادم مشروعين متباعدين في غزّة:
1- مشروع إسرائيليّ يسعى إلى تثبيت التفوّق الأمنيّ والعسكريّ في الإقليم وعدم التفريط بهذه الأوراق لمصلحة أيّ طرف.
2- مشروع تركيا التي تريد تجيير علاقاتها السياسيّة والعسكريّة لمصلحة جلوسها أمام أكثر من طاولة توازنات جديدة يجري الإعداد لها.
لذلك أبرز دوافع تركيا نحو مشاركتها العسكريّة في خطّة غزّة يتقدّمها:
3- تعزيز النفوذ الإقليميّ: تسعى تركيا إلى تثبيت موقعها كدولة فاعلة قادرة على التأثير في موازين القوى بعد الحرب، والمشاركة في رسم خرائط “اليوم التالي”، مستفيدة من وضعها الإقليميّ الحاليّ وانفتاحها على العواصم العربيّة والإسلاميّة المؤثّرة.
4- تعزيز حضورها في القضيّة الفلسطينيّة: ينسجم هذا الدور مع خطابها الداخليّ وطموحاتها نحو مشروع تقاسم النفوذ الإقليميّ، ويتيح لها كسب ورقة تفاوضيّة جديدة مع واشنطن والاتّحاد الأوروبيّ، كما تجلّى في الضوء الأخضر الأوروبيّ لبيع أنقرة مقاتلات “يوروفايتر” على الرغم من العرقلة الإسرائيليّة.
4- الدور الإنسانيّ وإعادة الإعمار: تهدف تركيا إلى ضمان حضورها في غزّة بعد الحرب، سواء عبر مساعدات إنسانيّة، أو المشاركة في مهامّ دوليّة، أو خطط وبرامج إعادة الإعمار، مع القدرة على التأثير في السياسات المقبلة للقطاع.
هكذا نرى أنّ انهيار عامل الثقة بين الطرفين وتضارب المصالح حالا دون أيّ تفاهم حقيقيّ على غزّة حتّى الآن: تركيا، بدعمها العلنيّ لـ”حماس” وبتصعيد خطابها ضدّ إسرائيل، تضع نفسها في موقع الخصم السياسيّ. بينما تعتبر إسرائيل أنّ أيّ انفتاح على أنقرة سيُقرأ داخليّاً كضعف أو رضوخ لضغوط إقليميّة.
مساران مختلفان
بناء على ذلك، ومن خلال المؤشّرات الحاليّة، يمكن الحديث عن مسارين محتملين:
1- استمرار الرفض الإسرائيليّ القاطع لأيّ وجود تركيّ في غزّة، مع الاكتفاء بدور تركيّ إنسانيّ أو سياسيّ عن بعد وبدعم أميركيّ.
2- قبول جزئيّ مشروط بوساطة أميركيّة يتيح لأنقرة المساهمة في إعادة الإعمار أو مراقبة ممرّات المساعدات دون انتشار عسكريّ.
أمّا الاحتمال الأضعف والأصعب فهو قد يحصل في حال تغيّر ميزان القوى أو حسابات واشنطن، فيُعاد النظر في ترتيب الأولويّات والتوازنات وتنتقل القوّات التركيّة إلى غزّة في إطار قوّة دوليّة تشكَّل تحت الرعاية الأمميّة.
واشنطن حريصة على موازنة علاقتها مع الشريكين، وتتبنّى مقاربة “الموازنة الدقيقة”، فتفتح الباب أمام مساهمة تركيّة في المجالات الإنسانيّة أو اللوجستيّة أو إعادة الإعمار دون منحها دوراً عسكريّاً مباشراً.
إذا نجحت واشنطن في إنهاء النقاش في مهامّ القوّات الدوليّة والغطاء القانونيّ والتقنيّ لها، فستصبح عقدة المشاركة التركيّة شكليّة ويمكن حسمها خلال جلسة واحدة برعاية أميركيّة. أمّا في حال فشل الجهود، فقد يُستعاض عن الدور التركيّ بفرق عسكريّة من دول يرضى بها الطرفان وتقبل القيام بهذه المهمّة مثل أذربيجان أو إندونيسيا أو الإمارات أو مصر.
في المحصّلة، ستبقى العلاقة بين أنقرة وتل أبيب متوتّرة مع ترك بعض الأبواب مواربة، في انتظار أيّ تحوّل في ميزان القوى الإقليميّ يعيد رسم حدود النفوذ في غزّة.
د.سمير صالحة

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.