“إسرائيل الكبرى”: حلم استعماري يتجدد ومخاطر على الأمن الإقليمي
المحامي أسامة العرب
خلال مقابلة تلفزيونية مثيرة للجدل مع قناة “آي 24” الإسرائيلية، الثلاثاء الماضي، طرح الصحفي على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سؤالاً مباشراً: هل يتبنى ما يُعرف بـ”رؤية إسرائيل الكبرى”؟ ثم عرض أمامه ما أسماها “خريطة الأرض الموعودة”. لم يتردد نتنياهو في الجواب، بل ردّ مرتين بحزم قائلاً: “بالتأكيد”، مضيفاً: “إنها إسرائيل الكبرى”.
هذه الكلمات لم تكن مجرد زلة لسان أو تصريح عابر، بل إعلان واضح عن ارتباط القيادة الإسرائيلية الحالية بمشروع استعماري توسعي قديم، يطلّ برأسه كلّما شعر الاحتلال أن الظروف الدولية والإقليميّة تسمح له بفرض وقائع جديدة على الأرض.
لذلك، لم يكن غريباً أن تثير تصريحات نتنياهو موجة واسعة من ردود الفعل العربية والإسلامية، عبّرت عن إجماع نادر في الموقف. فقد أدان وزراء خارجية 31 دولة عربية وإسلامية، إلى جانب جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، هذه التصريحات بأشد العبارات. أما الموقف الدولي، وخصوصاً الغربي، فجاء باهتاً خجولاً، إذ غابت عنه الإدانة الواضحة، لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، اللتين اكتفيتا ببيانات عامة لا تحمل أي إشارة حقيقية لخطورة ما قاله نتنياهو.
إنّ مصطلح “إسرائيل الكبرى” ليس جديداً في القاموس السياسي الإسرائيلي. بل هو رؤية توسعية تستند في بعض نسخها إلى نصوص توراتية، وفي أخرى إلى تفسيرات أيديولوجية أو تاريخية. كما تختلف الخرائط المتداولة لهذه الرؤية، إلا أن القاسم المشترك بينها هو الطموح في السيطرة على مساحات واسعة تتجاوز حدود فلسطين التاريخية. بعض هذه الخرائط يمتد ليشمل الأردن ولبنان وسوريا وأجزاء من مصر والعراق وشبه الجزيرة العربية، لتتحول إسرائيل إلى قوة إقليمية كبرى مهيمنة.
وقد أعاد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التذكير بهذه الرؤية عام 1990 في جلسة لمجلس الأمن بجنيف، عندما رفع عملة إسرائيلية من فئة عشرة أغورات قال إنها تُظهر خريطة “إسرائيل الكبرى”، التي تتجاوز حدود 1948. ورغم نفي إسرائيل في حينه، فإن الوقائع اللاحقة أثبتت أن هذا الحلم لم يغادر عقول كثير من قادة اليمين الإسرائيلي.
لم تبقَ فكرة “إسرائيل الكبرى” في حدود الشعارات، بل انعكست على الأرض من خلال سياسات الاستيطان والتهويد. فمنذ النصف الثاني من العقد الأول للألفية الجديدة، أخذ الخطاب التوسعي يزداد جرأة على لسان متطرفي اليمين الديني في حركة الاستيطان. أبرزهم بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الحالي، الذي لا يخفي حلمه بدولة تمتد “من النيل إلى الفرات”. وقد ظهر في مقابلة قديمة، ضمن وثائقي بثته القناة الفرنسية-الألمانية “آرتي”، وهو يصرح بأن حدود القدس – من وجهة نظره – يجب أن تصل إلى العاصمة السورية دمشق.
هؤلاء المتطرفون لم يعودوا على هامش السياسة الإسرائيلية، بل أصبحوا جزءاً من الحكومة ذاتها، ويتولون مناصب تمنحهم صلاحيات غير مسبوقة. وهذا ما يجعل مخطط “إسرائيل الكبرى” أكثر خطورة، لأنه لم يعد مجرد فكرة تروَّج في الكتب أو المنابر، بل سياسة محتملة تُرسم في أروقة الحكم.
في مواجهة هذه التطورات، يبرز سؤال جوهري: هل تكفي الإدانات والبيانات الرسمية؟ الجواب بوضوح: كلا. فالتاريخ علّمنا أن إسرائيل لا تتراجع أمام كلمات الشجب، بل تستغل الوقت لفرض المزيد من الوقائع الاستيطانية والجغرافية. إن ما تحتاجه القضية الفلسطينية اليوم، ومعها القضايا العربية المرتبطة بها، هو تحرك عملي على المستوى الدولي، يبدأ بتحريك الملف في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. ذلك أن تصريحات نتنياهو العلنية تُمثّل انتهاكاً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، واعتداءً على سيادة الدول المجاورة ووحدة أراضيها. كما أنها تشكل تهديداً مباشراً للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وإذا لم يتحول الموقف العربي والإسلامي إلى استراتيجية واضحة، فإن المشروع الإسرائيلي سيجد طريقه نحو التنفيذ خطوة بخطوة، عبر تكثيف الاستيطان وإشعال الحروب الصغيرة التي تسمح بتغيير الخرائط على الأرض.
إنّ ما يطرحه نتنياهو لا يهدّد فلسطين وحدها، بل يطال مستقبل المنطقة بأكملها. فإعادة رسم الحدود بالقوة يفتح الباب أمام فوضى عارمة وحروب طويلة الأمد، كما يعيد إنتاج منطق الاستعمار الذي تجاوزته الإنسانية في منتصف القرن الماضي. وإذا ما استمر الصمت الدولي، فإن إسرائيل ستشعر بأن لديها الضوء الأخضر لمتابعة مشروعها التوسعي، ما يعني ضرب مفهوم الدول الوطنية في المنطقة، وإضعاف سيادتها، وتهديد طرق التجارة والطاقة العالمية.
في الختام، إن إعلان نتنياهو تأييده لرؤية “إسرائيل الكبرى” ليس مجرد تصريح سياسي، بل هو جرس إنذار جديد لكل شعوب ودول المنطقة. فالمسألة لم تعد تتعلق فقط بالاستيطان داخل الضفة الغربية أو حصار غزة، بل بمخطط أكبر من ذلك بكثير، يسعى لتغيير موازين القوى والخرائط الإقليمية برمتها.
من هنا، فإن الرد العربي والإسلامي يجب أن يتجاوز حدود الشجب والاستنكار إلى بناء استراتيجية مواجهة شاملة، تشمل التحرك الدبلوماسي والقانوني والإعلامي، وتعزيز التضامن بين الشعوب، وربط القضية الفلسطينية بالأمن القومي العربي والإسلامي؛ لأن نتنياهو وحكومته لا يخفون العداء، والمطلوب أن نستعد نحن للمرحلة المقبلة، حيث يختلط تكثيف الاستيطان بإشعال الصهاينة للحروب، في محاولة لترجمة حلم “إسرائيل الكبرى” إلى واقع مفروض بالقوة؛ وهذا ما لن يتحقق أبداً بإذن الله، شاء من شاء وأبى من أبى.
المحامي أسامة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.