إشارات مرور إسبانيا تصرخ: قف ضد إسرائيل، الحرية لغزة

23

المحامي  أسامة العرب

في خطوة رمزية بالغة الدلالة، تحوّلت إشارات المرور في أحد شوارع إسبانيا إلى منبر احتجاجي صامت لكنه صارخ ضد الجرائم التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني، في وقت تتعالى فيه الصرخات الدولية تنديدًا بالمجزرة المستمرة في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023. هذه المبادرة، التي سرعان ما انتشرت صورها ومقاطع الفيديو الخاصة بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعكس عمق التضامن الشعبي في إسبانيا مع القضية الفلسطينية، وتؤكد أن الدعم لغزة يتجاوز الأطر التقليدية للتظاهرات والبيانات الرسمية ليلامس تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين.

الإشارة الحمراء التي اعتاد المارة على رؤيتها كرمز للتوقف والانتباه، حملت هذه المرة عبارة جديدة: “قف ضد إسرائيل”، دعوة مباشرة لرفض العدوان ووقف آلة الحرب التي لا تفرّق بين طفل وامرأة، بين بيت ومدرسة. هذه العبارة، البسيطة في صياغتها والعميقة في معناها، تختزل عقودًا من الصراع وتطالب بوقف فوري للانتهاكات. أما الإشارة الخضراء، التي ترمز للعبور والانطلاق، فقد زُيّنت بكلمات لا تقل وضوحًا: “الحرية لغزة”، في إشارة إلى الحلم الفلسطيني القديم المتجدد بالتحرر من الحصار والاحتلال والدمار. وهذا التناقض بين التوقف عن الظلم والانطلاق نحو الحرية يجسد بوضوح الموقف الإسباني المتنامي الرافض للاحتلال والمؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني.

إنّ هذه الرسائل المرورية لم تأتِ من فراغ، بل تعبّر عن نبض الشارع الإسباني، الذي لم يكتفِ هذه المرة بالخروج في تظاهرات أو رفع الأعلام، بل قرر تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى فعل مقاومة رمزية؛ فالشارع لم يعد مجرد ممر، بل صار مساحة للتعبير، ووسيلة نقل الألم الفلسطيني إلى وعي العالم. كما أنّ هذه المبادرات الشعبية، وإن بدت بسيطة، إلا أنها تحمل تأثيرًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر حزمًا؛ إنها تعكس تحولًا في الوعي الجماعي، حيث لم يعد الصمت خيارًا أمام ما يحدث في غزة.

وتأتي هذه اللفتة الرمزية في سياق موقف شعبي ورسمي متنامٍ داخل إسبانيا تضامنًا مع القضية الفلسطينية؛ فقد سبق أن أعلنت مدينة برشلونة، العاصمة الكاتالونية، قطع علاقاتها المؤسسية مع الحكومة الإسرائيلية وتعليق اتفاق الصداقة مع مدينة تل أبيب، في قرار صوّت عليه مجلس البلدية مدعومًا من الحزب الاشتراكي الحاكم وعدد من أحزاب اليسار والاستقلال. هذا القرار، الذي اتخذ في فبراير/شباط 2023 ثم أعيد تفعيله في مايو 2025، يمثل سابقة مهمة على مستوى البلديات الأوروبية، ويؤكد على أن التضامن مع فلسطين ليس مجرد شعارات بل يترجم إلى خطوات عملية ذات تأثير سياسي واقتصادي.

ونصّ القرار على تعليق “اتفاق الصداقة” الموقع منذ عام 1998 بين برشلونة وتل أبيب – يافا، إلى حين احترام القانون الدولي وضمان الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. كما دعا إلى عدم استضافة أجنحة حكومية إسرائيلية أو شركات أسلحة إسرائيلية في معرض برشلونة، وطرح توصية بعدم استقبال السفن المتورطة في نقل الأسلحة إلى إسرائيل في ميناء المدينة؛ وهذه البنود التفصيلية تظهر مدى جدية الموقف الإسباني في الضغط على إسرائيل، وتؤكد على أن التضامن لا يقتصر على الإدانة اللفظية بل يمتد إلى اتخاذ إجراءات ملموسة تؤثر على المصالح الإسرائيلية.

كذلك، فقد أوضح رئيس البلدية الحالي، جاومي كولبوني، أن “مستوى المعاناة والموت الذي شهدته غزة على مدار العام والنصف الماضيين، إضافة إلى الهجمات المتكررة التي شنتها الحكومة الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة، تجعل أي علاقة بين المدينتين غير قابلة للاستمرار”. ويُذكر أن كولبوني أعاد تفعيل القرار بعد أن كانت قد علّقته الحكومة البلدية السابقة عقب انتخابات 2023، في حين كانت رئيسة البلدية السابقة آدا كولاو أول من اتخذ هذه المبادرة في فبراير/شباط من نفس العام. وهذا التناوب في المواقف البلدية يؤكد على أن القضية الفلسطينية تحظى بدعم واسع ومتجذر في الأوساط السياسية والشعبية الإسبانية، بغض النظر عن التوجهات الحزبية.

كما تعزز هذا التوجه السياسي الإسباني حين اعترفت حكومة بيدرو سانشيز رسميًا بدولة فلسطين في 28 مايو/أيار 2024، إلى جانب كل من أيرلندا والنرويج، ما أثار حفيظة تل أبيب. وقد أصبح سانشيز من أبرز الأصوات الأوروبية المناهضة لحكومة نتنياهو، مؤكدًا في أكثر من مناسبة أن السكوت عن الجرائم الإسرائيلية يعني التواطؤ معها.

إنّ هذا الاعتراف الرسمي يمثل نقطة تحول مهمة في الدبلوماسية الأوروبية، ويضع إسبانيا في طليعة الدول التي تتحدى السردية الغربية التقليدية الداعمة لإسرائيل، ويشجع دولًا أخرى على اتخاذ خطوات مماثلة.

وهكذا، لا تقف إشارات المرور في شوارع إسبانيا وحدها في وجه الاحتلال، بل ينضم إليها صوت البلديات، وموقف الحكومة المركزية، وضمير الشارع الحي. وفي زمن تتواطأ فيه الدولة العظمى مع الاحتلال، وتُروّج للاستسلام للعدو كأنّه قدر لا يُرد، تُبرق إسبانيا من قلب أوروبا برسالة إنسانية عنوانها: العدالة لفلسطين، والحرية لغزة، ووقف المجازر فورًا.

وهذه المواقف المتكاملة، من القاعدة الشعبية إلى قمة الهرم السياسي، ترسم صورة لدولة ترفض الظلم وتتمسك بالقيم الإنسانية، حتى لو كان ذلك يتعارض مع المصالح السياسية والاقتصادية الضيقة. ذلك أنها دعوة صريحة للمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه الشعب الفلسطيني، ووقف سياسة الكيل بمكيالين التي طالما ميزت التعامل مع القضية الفلسطينية.

ومن جهتنا، فإننا نرى أن التحركات الإسبانية الأخيرة، سواء على المستوى الشعبي المتمثل في إشارات المرور الرمزية، أو على مستوى البلديات بقرار برشلونة التاريخي، وصولًا إلى الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين من قبل الحكومة المركزية، لا تمثل مجرد مواقف سياسية عابرة، بل هي مؤشرات عميقة على تحول محتمل في الوعي الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية. ونعيد ونكرر، في ظل صمت دولي مطبق، وتواطؤ بعض القوى الكبرى مع آلة الحرب الإسرائيلية، تبرز إسبانيا كصوت أخلاقي يحاول تصحيح المسار، ويقدم نموذجًا لكيفية تحويل التضامن الشعبي إلى فعل سياسي ملموس. كما يمكن تحليل الموقف الإسباني من عدة زوايا: أولًا، على المستوى الشعبي، فإن مبادرات مثل إشارات المرور تعكس وعيًا متزايدًا بالظلم الواقع على الفلسطينيين، وتجاوزًا للسرديات الإعلامية التقليدية التي غالبًا ما تحاول تبرير العدوان الإسرائيلي. وهذا الوعي الشعبي يمارس ضغطًا حقيقيًا على الحكومات، ويجعل من الصعب عليها تجاهل المطالب الأخلاقية والإنسانية. ثانيًا، على مستوى البلديات، فإن قرار برشلونة بقطع العلاقات مع تل أبيب يمثل خطوة جريئة تتجاوز الدبلوماسية التقليدية، وتؤكد على أن المدن يمكن أن تلعب دورًا فاعلًا في السياسة الخارجية، وأنها ليست مجرد كيانات إدارية. وهذا النموذج يمكن أن يلهم مدنًا أخرى في أوروبا والعالم لاتخاذ مواقف مماثلة، مما يخلق شبكة من التضامن المدني الذي يضغط على الحكومات المركزية.

ثالثًا، على المستوى الحكومي، فإن اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين، إلى جانب أيرلندا والنرويج، يمثل تحديًا مباشرًا للوضع الراهن الذي تفرضه القوى الغربية الكبرى. وهذا الاعتراف ليس مجرد لفتة رمزية، بل هو خطوة قانونية وسياسية مهمة تمنح الفلسطينيين شرعية دولية أكبر، وتضع ضغطًا على إسرائيل للامتثال للقانون الدولي. كما أنه يرسل رسالة واضحة بأن حل الدولتين لا يزال هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والشامل، وأن تجاهل حقوق الفلسطينيين لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار.

ولكننا نختم بالقول بأنه مع ذلك، يجب ألا نغفل أن هذه التحركات، وإن كانت إيجابية، لا تزال تواجه تحديات كبيرة. فالضغط الإسرائيلي والأمريكي على الدول الأوروبية قويّ، وهناك مصالح اقتصادية وسياسية متشابكة تعيق اتخاذ مواقف أكثر حزمًا. كما أن هناك تيارًا داخل أوروبا لا يزال يتبنى مواقف داعمة لإسرائيل، ويحاول شيطنة أي صوت مؤيد للدولة الفلسطينية. لذا، فإن استمرارية وفعالية الموقف الإسباني ستعتمد على قدرته على الصمود أمام هذه الضغوط، وعلى مدى قدرته على إلهام دول أخرى للانضمام إلى هذا المسار.

وفي الخلاصة، يمكن القول إن إسبانيا، من خلال مواقفها الأخيرة، تقدم بصيص أمل في عالم يبدو وكأنه قد تخلى عن مبادئه الأخلاقية. إنها تذكرنا بأن التضامن الإنساني لا يعرف حدودًا، وأن العدالة لفلسطين هي قضية إنسانية عالمية تتجاوز السياسة والمصالح الضيقة. كما أن إشارات المرور التي تصرخ “قف ضد إسرائيل، الحرية لغزة” ليست مجرد لافتات على الطرق، بل هي صدى لضمير عالمي يرفض الظلم، ويطالب بالحرية والكرامة لشعب عانى طويلًا، وسينالها بالقريب العاجل بإذن الله تعالى.

المحامي  أسامة العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.