إشكالية السلطة عند المسيحيين في لبنان: بين فكرة الاندماج وحلم الإمارة المفترضة

3

مصباح العلي

منذ القرون الوسطى، في زمن الأساطيل والممالك والإمبراطوريات، تشكّلت في جبل لبنان تجربة فريدة في المشرق: الإمارة المسيحية بوصفها مساحة حماية وكيانًا سياسيًا شبه مستقل، حفظ للمسيحيين وجودهم وخصوصيتهم في محيط مضطرب. من هنا وُلد ما يمكن تسميته بـالحلم المسيحي في الحكم؛ حلم لم يبدأ كطموح للهيمنة، بل كبحث عن الأمان والضمانة.

غير أن هذا الحلم، عبر القرون، تحوّل تدريجيًا من مشروع حماية إلى إشكالية سلطة، ومن ملجأ إلى لعنة، ومن تجربة حكم محدودة إلى سلسلة صدامات داخلية وخارجية انتهت بانهيار الدولة نفسها.

من الإمارة إلى لبنان الكبير: السلطة كضمانة وجود

في العهدين المعني والشمسي ثم الشهابي، شكّلت إمارة جبل لبنان نموذجًا خاصًا في العلاقة بين المسيحيين والسلطة. كانت السلطة آنذاك وسيلة لحماية الجماعة، لا أداة صراع داخلي. ومع الانتقال إلى لبنان الكبير عام 1920، تحوّل هذا الهاجس إلى مشروع دولة، تُوّج بـالميثاق الوطني عام 1943، حيث تكرّست المارونية السياسية بوصفها العمود الفقري للكيان الناشئ.

في تلك المرحلة، لم تكن السلطة المسيحية سلطة إلغاء، بل سلطة إدارة توازنات دقيقة بين طوائف متوجسة من بعضها. غير أن نجاح التجربة في بداياتها زرع في الوعي المسيحي اعتقادًا خطيرًا: أن بقاء لبنان مرهون ببقاء هيمنتهم على رأس السلطة.

من شمعون إلى شهاب: أول تصدّع في الحلم

مع كميل شمعون ظهر أول انقسام عميق بين المسيحيين حول معنى السلطة: هل هي امتياز طائفي أم وظيفة وطنية؟ وجاء فؤاد شهاب ليقلب المعادلة نحو دولة المؤسسات، لا دولة الزعامة. غير أن «الشهابية» اصطدمت ببنية طائفية رافضة لإضعاف الزعامات، فبدأت أولى معارك المسيحيين مع فكرة الدولة الحديثة.

من هنا بدأت إشكالية مزدوجة: الخوف من فقدان الامتياز، والخوف من الذوبان في الدولة.

الحرب الأهلية: سقوط وهم الإمارة بالقوة

مع اندلاع الحرب الأهلية، عاد الحلم الإماري بصيغته الأكثر دموية. برز بشير الجميل بوصفه رمز «الدولة المسيحية القوية»، وحاول بالقوة العسكرية ما لم يستطع تحقيقه بالسياسة. لكنه اغتيل قبل أن يحكم، وبقي مشروعه ناقصًا، وأدخل المسيحيين في مواجهة شاملة مع محيطهم وداخلهم في آن.

بعده، تحوّلت الأحلام إلى انكسارات متتالية: مناطق محاصَرة، هجرة كثيفة، وتآكل في الدور السياسي لمصلحة قوى صاعدة إقليمياً وداخلياً.

الطائف: نهاية الدور أم بداية الاندماج؟

شكّل اتفاق الطائف 1989 أخطر محطة في المسار المسيحي. فالمسيحيون شعروا أن الاتفاق انتقص من صلاحيات رئاسة الجمهورية، أي من رمز سلطتهم التاريخية، فيما رأت بقية الطوائف أن الطائف أنهى زمن الهيمنة الأحادية.

هنا انفجر التناقض الكبير:

هل المطلوب اندماج المسيحيين في الدولة كشركاء عاديين، أم الاستمرار في البحث عن صيغة تعيد لهم دور «صاحب السلطة الأولى»؟

هذا السؤال بقي بلا جواب، وتحول إلى انقسام حاد بين مشروعين:

مشروع يرى الخلاص في الدولة والتوازن

ومشروع يرى الخلاص في استعادة «الحقوق المهدورة» بالقوة السياسية أو الشعبية

من عون إلى عون: اكتمال المأساة

مع صعود ميشال عون، عاد الحلم الإماري بثوب «الإصلاح والتغيير». قُدّم كمنقذ للمسيحيين، كمن يستعيد «حقوق الرئاسة» و«كرامة المسيحيين». لكن التجربة انتهت بأكبر انهيار اقتصادي ومالي وسيادي في تاريخ لبنان.

بدل أن يستعيد المسيحيون دورهم، سقطت الدولة كلها، وسقط معها آخر ما تبقى من صورة «الرئيس القوي»، لنصل إلى ما سُمّي رسميًا بـجهنم.

من بشير الأول في الإمارة، إلى بشارة الخوري، إلى كميل شمعون، إلى فؤاد شهاب، إلى حلم بشير الجميل، وصولًا إلى ميشال عون وسمير جعجع… تتكرر المعادلة نفسها:

كلما اقترب الحلم الإماري، ابتعدت الدولة. وكلما اقتربت الدولة، شعر المسيحيون بالخوف على دورهم.

المفارقة الأخيرة: جوزيف عون تحت نيران الاعتراض

المفارقة الأوضح اليوم تتمثل في الاستهداف الضمني أو المباشر لقائد الجيش جوزيف عون، رغم كونه من القلائل الذين حافظوا على ما تبقى من هيبة مؤسسة الدولة، ونجح في حماية الجيش من الانهيار، ومن الانقسام، ومن التسييس الكامل.

المفارقة أن الهجوم عليه يأتي من جهات مسيحية متناقضة ظاهريًا، لكنها تلتقي ضمنيًا عند رفض أي نموذج مسيحي غير خاضع لمنطق الزعامة الحزبية أو المشروع السلطوي الخاص.

وهنا تتجلى المعضلة العميقة:

هل المشكلة في الأشخاص، أم في العلاقة المرضية بين المسيحيين وفكرة السلطة نفسها؟

إشكالية المسيحيين في لبنان ليست أزمة تمثيل، بل أزمة تصور للسلطة. بين من يرى السلطة ضمانة وجود، ومن يراها وظيفة داخل الدولة، يتفكك الدور وتضيع البوصلة.

الحلم بالإمارة سقط تاريخيًا، وسيتكرر سقوطه كلما عاد كبديل عن الدولة. وفي المقابل، الاندماج في الدولة لا يعني الذوبان، بل الشراكة المتوازنة. ما لم يُحسم هذا الخيار فكريًا وسياسيًا، سيبقى المسيحيون عالقين بين حنين إلى سلطة لم تعد ممكنة، وخوف من دولة لم يتصالحوا معها بعد.

مصباح العلي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.