إلى حين زوال الـهواء الأصفر

15

بقلم فوزي عساكر

رئيس تحرير مجلة «العالمية»

منذ بداية الخليقة، والإنسان يقايض من أجل الحصول على لقمة العيش. ومن ثم يبتكر أشكالاً لعملةٍ تُغنيه عن المقايضة، ليخفف عنه أعباء الأحمال الثقيلة. واستمرّ التطوّر في حياة الإنسان، إلى أن صارت الحروب من أجل امتلاك كل شيء من دون دفع الثمن. فأصبحت القوة العسكرية والإقتصادية مقياس ميزان العملات الورقية والمعدنية والمشفرة..

ولكن، في الحروب تتبدّل أشكال العملة، لانعدام الثقة بِمَن يَسكُّ النقود. ففي الحرب العالـمية الأولى، دفنَ اللبنانيون والعرب ذهبهم في التراب، كي لا يستبدلوه بالعملة الورقية العثمانية في آخر عهد دولة الرأس المريض. وفي كل الحروب، تتخلّص الشعوب من أموالها الورقية، مهما ارتفعت قيمتها في البورصة العالـمية، من أجل شراء الذهب، لانعدام ثقة الشعوب المغلوبة بِحكامها أم بالمستعمر أم بالمحتلّ، أم بالنظام العالمي الجديد.

رحمَ الله أمّ سعيد، التي كانت تَحلم أن ترى ابنها سعيدًا في حياته، فكانت تُخبّئ له ليراتِها الذهبية في «سْطَيْلة لبن»، وتدفنها في حافة الجلّ تَحت التينة، كي لا يسطو عليها «العسكر العسملّي». ولكن أمّ سعيد، ماتت من الجوع قبل انتهاء الاحتلال العثماني لبلادنا، وهجرَ ابنها سعيد إلى البرازيل وانقطعت أخباره. هذا بعد أن فقدت زوجها في عزّ شبابه، يوم أجبرته السلطة العثمانية على العمل بالسخرة في ظروف قاسية. وسقطت عتبات البيت فانكشفَ سقفه وتَحوّلَ إلى خربة تتلاعب في شيخوختها العواصف والرياح والأعاصير. واندثرت العائلة، ولم ينعم أحد منها بالذهب المودَع في «سطيلة اللبن» المدفونة في التراب قرب الخربة.

وبعد انتهاء الاحتلال العثماني، كان أحد الرعاة يرعى قطيعه في جوار الخربة، فأسندَ ظهره إلى جذع التينة، وراح يغنّي ويضرب بعصاته التراب عند حافة الجلّ، إلى أن أحدثت عصاته طنينًا عند ملامستها شيئًا غريبًا. فحفرَ قليلاً، ووجدَ «سطيلة اللبن»، وفي داخلها الليرات الذهبية. لم يعرف قيمتها لأنه وُلِدَ في عصر العملة الورقية التي أورثتنا إياها الدولة العثمانية. فأفرغَ الوعاء ليستعمله للحليب واللبن، ووضع الليرات «العسمليّة» في جيوبه، وراح يضرب بِها القطيع كلّما حاد عن الطريق، إلى أن وصل إلى ساحة الضيعة، فرآه أهل الحيّ يرمي هذه الذهبيات، وصرخوا به: «ماذا تفعل؟ مِن أين جئتَ بِهذه الليرات؟» أجابَهم ببساطة: «كان معي منها الكثير، فرحتُ أضرب بِها القطيع؟»

فصُعِقَ أهل البلدة، وراحوا يفتّشون عنها بين الصخور والحفافي.

واليوم، بعد أن أعلن رئيس العالم دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، أنه سيفرض السلام في كل العالم، ولم يَحصل على جائزة نوبل للسلام، راح يفرض السلام بالقوة، ويقدّم أسلحة الدمار الشامل لدولةٍ قد تغلبُ العالم ولكن لن تعيش بسلام، كما راح يفرض الضرائب الباهظة على السفن والبضائع المستوردة. عند ذلك، فقدَ العالم مرةً جديدة ثقتهم بالعملة الورقية، ولو كانت لدولة عظمى، وراحت الدول والشعوب تشتري الذهب، حتى بلغ سعره حدّاً أقصى لم يبلغه في التاريخ البشريّ، مِن زمن المقايضة إلى زمن العملة المشفّرة.

فما قيمة السلام إذا كان على قاعدة إبادة الشعوب والعيش على جثث الضحايا؟!

فيا حاكم العالم، حتى عملتك فقدتْ قيمتها لعدم ثقة العالم بسلام الأقوياء على حساب مقابر الضعفاء.

نعم، سيحلّق سعر الذهب الأصفر إلى حين زوال الهواء الأصفر، الذي يُخيّم على العالم في زمن الاستقواء، باستخدام القوة لفرض السلام، الذي يكلّف مئات الآلاف من الضحايا الذين لا ذنب لهم في قرار الموت والحياة!

فوزي عساكر

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.