“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “

1

المهندس بسام برغوت

يُعَدُّ المولد النبوي الشريف من أعظم المناسبات الإسلامية التي تحتل مكانة خاصة في قلوب المسلمين جميعًا، فهو اليوم الذي أشرقت فيه الدنيا بميلاد سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله . إن هذه الذكرى العطرة ليست مجرد مناسبة تاريخية نستحضر فيها حدثًا مضى، بل هي محطة إيمانية وروحية يجدّد فيها المسلمون حبّهم لرسولهم، ويستعيدون فيها دروسًا خالدة من حياته وسيرته التي شكّلت أعظم مدرسة في التاريخ الإنساني.

يوافق مولده الشريف، بحسب أغلب الروايات التاريخية، الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، وهو العام الذي تعرّضت فيه الكعبة لهجوم أبرهة الحبشي وجيشه الذي أراد هدمها. فجاء ميلاد النبي إيذانًا ببدء عهد جديد، وانتقال البشرية من ظلمات الجهل والشرك إلى نور التوحيد والهداية.

كان العرب قبل بعثة النبي يعيشون في بيئة اجتماعية ودينية مضطربة، حيث انتشرت عبادة الأصنام. كما انتشرت العصبية القبلية إلى جانب مظاهر الظلم الاجتماعي مثل وأد البنات، واستغلال الضعفاء، وغياب القيم الأخلاقية الجامعة.

في ظل هذه الأجواء القاتمة، جاء ميلاد النبي ليكون بداية عهد التغيير، إذ أعدّه الله تعالى لحمل رسالة السماء الخاتمة، فجمع بين مكارم الأخلاق، والحكمة، والشجاعة، والصدق الذي عُرف به قبل بعثته بلقب “الصادق الأمين”.

يمثل الاحتفال بالمولد النبوي عند المسلمين فرصة للتعبير عن الفرح بميلاد النبي، واستحضار سيرته العطرة، والتأكيد على معاني الرحمة التي بُعث بها. وقد اختلف العلماء في مشروعية الاحتفال به من الناحية الفقهية، لكن الجميع أجمع على أن تذكر سيرته والاقتداء به عمل مشروع بل واجب على كل مسلم.

فالاحتفاء بهذه الذكرى هو تجديد محبة الرسول، واستلهام للدروس والعبر من مواقفه العظيمة، سواء في صبره على الأذى، أو في عدله بين الناس، أو في دعوته إلى مكارم الأخلاق التي أعلنها بقوله: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

إن إحياء ذكرى المولد النبوي لا يقتصر على المظاهر الاحتفالية من أناشيد ومدائح وتوزيع الحلوى، بل يمتد إلى عمق روحي يذكّر المسلم بمسؤوليته تجاه رسالته في الحياة. فحب الرسول ليس كلمات تتردد على الألسن، بل اتباع واقتداء عملي بهديه وسنته.

ففي ذكرى المولد، يراجع المؤمن نفسه: هل يعامل الناس بخلق الرحمة كما كان رسول الله رحيمًا؟ هل يصدق في قوله وفعله كما كان النبي يُعرف بالصدق والأمانة؟ هل يتذكر أن رسالته الحقيقية في هذه الحياة هي عبادة الله وعمارة الأرض بالخير والعدل؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعل من المولد النبوي محطة للمحاسبة والتجديد الروحي.

سيرة النبي تمثل أعظم منهج تربوي للإنسان. ففيها يتعلم الطفل معنى الصدق منذ نعومة أظفاره، ويتعلم الشاب معنى القوة المقرونة بالرحمة، ويتعلم الحاكم معنى العدل والمساواة بين الناس. عندما نقرأ عن حلم النبي وتواضعه مع أصحابه، وكيف كان يجلس بينهم كأنه واحد منهم، نتعلم درسًا في القيادة الحقيقية. وعندما نرى موقفه من أعدائه الذين آذوه ثم عفا عنهم يوم فتح مكة، نتعلم أن التسامح أقوى من الانتقام.

عرفت الأمة الإسلامية عبر القرون أشكالًا متعددة من إحياء ذكرى المولد النبوي. ففي العصر الفاطمي بمصر، بدأ الاحتفال الرسمي بالمولد بإقامة مجالس للذكر والإنشاد وتوزيع الأطعمة على الفقراء. ثم انتقلت هذه العادة إلى بلاد الشام والعراق والمغرب، حيث صار الناس يقيمون مواكب وأمسيات شعرية تمدح النبي وتستعرض سيرته.

وفي العصور المتأخرة، تطور الاحتفال ليشمل الدروس الدينية والمحاضرات التي تركز على السيرة النبوية، إلى جانب المظاهر الاجتماعية مثل تزيين الشوارع وتوزيع الحلوى الخاصة بهذه المناسبة.

لا يكاد يخلو بلد مسلم من إحياء ذكرى المولد النبوي. ففي مصر تُضاء المساجد وتوزع حلوى المولد الشهيرة، وفي المغرب تقام مواكب دينية ومجالس للذكر، وفي تركيا وإندونيسيا تُلقى الخطب وتُنشد المدائح النبوية. أما في بلاد الشام، فيجتمع الناس في حلقات الذكر ويتلون القرآن ويمدحون الرسول بالشعر. وتختلف أشكال الاحتفال من بلد إلى آخر، لكنها جميعًا تلتقي عند هدف واحد: التعبير عن الفرح والحب للنبي محمد ، وتعليم الأجيال الناشئة سيرته العطرة.

دروس مستفادة من ذكرى المولد

التذكير بالرسالة: أن النبي جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

تعزيز الأخلاق: فالرسول قدوة في الصدق، والأمانة، والتواضع، والرحمة.

البذل والعطاء: إذ يحرص المسلمون في هذه المناسبة على الصدقات والإحسان للفقراء.

القدوة للشباب: فالنبي نموذج للشاب الأمين القوي العفيف الذي يُحتذى به.

الوحدة الإسلامية: إن المولد النبوي يجمع المسلمين على كلمة سواء، ويوحد مشاعرهم حول شخصية عظيمة لا يختلفون على حبها.

ختاماً ،

إن ذكرى المولد النبوي الشريف ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي مدرسة مفتوحة على الدوام، نستقي منها قيم الإيمان، والأخلاق. إن الاحتفال الحقيقي بهذه الذكرى هو أن نجعل من سيرة النبي دستورًا لحياتنا اليومية، فنتمثل أخلاقه في بيوتنا، وأعمالنا، وعلاقاتنا مع الناس، وأن نجدد العهد مع رسولنا، ونسعى لإحياء سنته في واقعنا، ونعلّم أبناءنا أن حب النبي لا ينفصل عن طاعة الله والعمل الصالح.

وبذلك تبقى ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة متجددة، تبعث الأمل في النفوس، وتغرس معاني المحبة، وتؤكد أن الإسلام رسالة رحمة للعالمين، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

المهندس بسام برغوت

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.