إيجابيات وسلبيات مشروع قانون استقلالية السلطة القضائية

14

بقلم د. ابراهيم العرب

يأتي مشروع قانون تنظيم القضاء العدلي في لبنان في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد، حيث فقد اللبنانيون ثقتهم بمؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء، نتيجة سنوات طويلة من التدخلات السياسية، والمحاصصة الطائفية، وتراكم ملفات الفساد من دون محاسبة. إن إطلاق هذا المشروع يُعد خطوة نوعية طال انتظارها على طريق إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته، بما يعيد بعض التوازن إلى مؤسسات الدولة ويكرّس مبدأ الفصل بين السلطات، أحد أعمدة النظام الديمقراطي السليم.

إن أبرز ما يلفت في المشروع هو الاتجاه نحو تفعيل دور الجسم القضائي نفسه في اختيار ممثليه، من خلال اعتماد مبدأ الانتخاب لنصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى، بدلًا من إبقائه حكرًا على التعيينات التي تجريها السلطة التنفيذية. هذا التغيير يُعتبر تقدمًا جوهريًا في سبيل تقليص النفوذ السياسي على هذا المجلس الذي يشكّل العمود الفقري لتنظيم الحياة القضائية، من حيث التعيينات والتشكيلات والمحاسبة.

كما لحظ المشروع تعديلًا جذريًا في آلية إصدار التشكيلات القضائية، إذ جعل من مجلس القضاء الأعلى الجهة صاحبة القرار النهائي فيها، ضمن مهلة زمنية محددة، وهو ما ينهي فعليًا حالات تعطيل التشكيلات التي شهدناها في السنوات الماضية، عندما كانت السلطة السياسية تتعمد تعطيل المراسيم لأسباب ترتبط بالمحسوبيات والتوازنات الطائفية. إن وضع سقف زمني يضمن انتظام العمل القضائي، ويحفظ كرامة القضاة، ويمنع ابتزازهم بمراكزهم.

ومن الإصلاحات المهمة التي يتضمنها المشروع، مبدأ الحراك القضائي الإلزامي بعد خمس سنوات من شغل القاضي لمركزه، بحيث يتم نقله إلى مركز موازٍ أو أعلى، ما يعزز من روح التجديد ويمنع نشوء حالات “التوريث” القضائي داخل المحاكم، حيث يبقى القاضي في الموقع نفسه لعقود، الأمر الذي يخلق علاقات شخصية مشبوهة أو شبكات نفوذ. كما أن هذا الإجراء يسهم في تطوير قدرات القضاة وتوسيع خبراتهم، وهو عنصر ضروري في بناء قضاء فعّال ومهني. ولم يغفل المشروع حقوق القضاة الأساسية، فكرّس حريتهم في التعبير والانتماء الجمعوي، وهو ما يُعد انسجامًا مع المعايير الدولية، لا سيما “المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية” الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1985، التي تؤكد في مادتها الثامنة أن “للقضاة مثلهم مثل أي مواطن، الحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والاجتماع”، شرط ألا يتعارض ذلك مع حيادهم القضائي.

كذلك نصّ المشروع على تنظيم ظهور القضاة إعلاميًا، بما يضمن احترام مبدأ الشفافية، ويفتح الباب أمام تفاعل إيجابي مع الرأي العام، دون المساس بهيبة القضاء. هذا التوجه يلاقي توصيات مجلس حقوق الإنسان، الذي دعا في تقاريره الدورية إلى تعزيز انفتاح القضاء على المجتمع، من دون الإخلال بمبدأ الاستقلال والوقار.

مع ذلك، فإن المشروع لا يخلو من مواطن ضعف تتطلب التعديل والتطوير. فرغم تقليص نفوذ السلطة التنفيذية، لا يزال لهذه الأخيرة دور في تعيين بعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى، ما يفتح الباب أمام استمرار التسييس، ولو بدرجة أقل. كما أن تركيبة المجلس، في صيغتها الحالية، لا تعكس بصورة كافية التنوّع المهني والاجتماعي داخل الجسم القضائي، ولا تضمن تمثيلًا متوازنًا لمختلف الفئات القضائية.

أما نظام تقييم القضاة الذي جاء به المشروع، ورغم ضرورته لتفعيل مبدأ المساءلة، فإنه يبقى سيفًا ذو حدّين، ما لم يُقرن بضمانات صارمة تضمن شفافيته وحياده. إذ يمكن أن يتحوّل إلى أداة ترهيب بيد المتنفّذين، تُستخدم لتصفية القضاة الجريئين أو المخالفين للتوجهات السياسية السائدة. لذلك، لا بد من إحاطة هذا النظام بإجراءات رقابية مستقلة، وإشراك ممثلين عن المجتمع المدني والخبراء القانونيين في مراقبة آلية تطبيقه، بما ينسجم مع ما ورد في رأي لجنة البندقية (2010) بشأن “الهيئات التأديبية القضائية”، التي دعت إلى فصل آليات التقييم عن أي سلطة تنفيذية أو سياسية.

وإلى جانب هذه الثغرات، فإن المشروع لم يُعالج بوضوح آلية محاسبة القضاة المتورطين في الفساد أو التقصير الجسيم، ولم يقدّم تصورًا متكاملًا لسلطة التأديب، ما يترك باب الإفلات من العقاب مفتوحًا. وفي الوقت نفسه، فإن النصوص المقترحة لا تزال بحاجة إلى مراجعة دقيقة لضمان توافقها مع المادة 20 من الدستور اللبناني، التي تقضي بأن “السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها، أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون، والعدالة تُمارس باسم الشعب اللبناني، ويمارسها القضاة المستقلون”؛ مما يُحتّم تحصينهم قانونيًا وإداريًا كي لا يبقوا تحت رحمة السلطة السياسية.

وعليه، فإن مشروع قانون تنظيم القضاء العدلي هو بلا شك خطوة إصلاحية مهمة، لكنه لا يزال مشروعًا “ناقصًا” في نظر الكثير من الخبراء والحقوقيين، ويحتاج إلى تطوير جاد قبل أن يُقرّ بصيغته النهائية. المطلوب اليوم ليس فقط تجميل النظام القضائي، بل إعادة بنائه على أسس جديدة، تضمن استقلال القاضي، وشفافية التعيينات، وفعالية المساءلة، وشراكة حقيقية مع المجتمع.

إن القضاء المستقل ليس ترفًا في دولة تنهار مؤسساتها، بل ضرورة وجودية. فمن دون قضاء يحكم باسم الشعب لا باسم الأحزاب والطوائف، لا يمكن تحقيق العدالة، ولا استعادة الثقة، ولا بناء دولة حديثة تحمي الحقوق وتصون الكرامات. إن إقرار قانون يضمن استقلالية فعلية للسلطة القضائية سيكون أول مدماك في مشروع استنهاض الدولة اللبنانية من تحت أنقاض الفساد والانهيار.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.