إيران تضحّي بالنّوويّ… لحماية البالستيّ
بقلم حسن فحص
«أساس ميديا»
هل يُعدّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب استبدال اسم “وزارة الدفاع” بـ”وزارة الحرب” تغييراً شكليّاً في المصطلحات، أم تحوّلاً استراتيجيّاً عميقاً يعكس توجّهاً جديداً نحو تكريس “سلام القوّة” وإعادة تعريف أسس الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية؟ وهل ما يجري اليوم في الشرق الأوسط، من غزّة إلى طهران، يُترجم عمليّاً هذا الخيار الجديد الذي قد ينقل العالم إلى مرحلة أكثر صداميّة، تحت شعار أنّ القوّة هي السبيل الوحيد لفرض الاستقرار؟
قد لا يكون قرار تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، الذي اتّخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قراراً عابراً يلبّي رغبة الرئيس بتعزيز رؤيته ومفهوم القوّة الأميركية وقدرتها على فرض إرادتها على الأطراف الأخرى، الحلفاء أو الخصوم على حدّ سواء. يعيد القرار تعريف مفهوم مقوّمات وأسس الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية، التي يعتبرها ترامب قد تعرّضت للعديد من الأضرار بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقرار الكونغرس اعتماد مفهوم الدفاع في تعريف القوّة والقدرة الأميركيّتَين.
لم يكن هذا التوجّه لدى ترامب ليحتلّ حيّزاً محوريّاً في فهمه لمؤلّفات هذه القوّة، لو لم يختبر ذلك بشكل مباشر، خاصّة على ساحة الشرق الأوسط في الحروب التي خاضتها إسرائيل ضدّ حركة حماس في قطاع غزّة، وضدّ “الحزب” في لبنان، وصولاً إلى الهجوم المشترك الذي قامت به واشنطن وتل أبيب ضدّ النظام الإيراني.
سبق لترامب خلال رئاسته الأولى أن جعل الجيش الإسرائيلي وتل أبيب جزءاً من قوّات القيادة الوسطى للقوّات الأميركية، وهو ما سمح لهذه القيادة بالإشراف والمشاركة في كلّ العمليّات التي شهدها الشرق الأوسط في السنتين الأخيرتين.
ينسجم خيار التحوّل إلى وزارة “الحرب” مع شعار “سلام القوّة” الذي رفعه ترامب عند دخوله البيت الأبيض، وفرضه خياراً على جميع الملفّات المتوتّرة على الساحة الدولية. ويحاول ترجمته مجدّداً في التعامل مع فنزويلا تحت غطاء الحرب على كارتيلات المخدّرات. وهو على استعداد لاعتماده مجدّداً مع طهران إذا لم تستجِب للشروط التي سيضعها على أيّ طاولة تفاوض مستقبلية معها.
طهران تفاوض وواشنطن ترفض..
تنظر العواصم الدولية بعين القلق لهذا التحوّل في مفهوم “الهيمنة والسيطرة” الأميركيّتين في التعامل مع القضايا الدولية، سواء تلك الحليفة لها، التي تتخوّف من تعميق أزماتها الداخلية وتراجع دورها الشريك لواشنطن على الساحة الدولية، أو تلك التي تقع في دائرة الاستهداف الأميركي، خاصّة في المعسكر الشرقي ومن يدور في فلكه.
لكنّ طهران تتعامل مع هذا التحوّل بمستويات أعلى من القلق والتوجّس، في ظلّ الفشل الذي تعاني منه الجهود التي تبذلها لإحداث خرق في جدار الاعتراض الأميركي على التفاوض وإهمال كلّ إشارات التنازل التي ترسلها طهران.
أهمّ تلك الإشارات ما يرسله أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الجديد علي لاريجاني، الذي يمثّل توجّهات الفريق العقلانيّ في غرفة القرار الإيراني، من أنّ إيران تريد التفاوض ولا تتهرّب منه، لكنّ الأميركي هو الذي يمتنع عن ذلك.
تأتي هذه الإشارات نتيجة السلوك الأميركي الذي برز بعد الضربة العسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، والاستراتيجية القائمة على ترك طهران تعيش حالة من عدم اليقين بإمكان التوصّل إلى آليّة تفاوضيّة لا تضعها في موقع الخسارة التامّة والكاملة، وتسمح لها بالخروج من تحت نير العقوبات الاقتصادية التي تشكّل الهاجس ومصدر القلق الحقيقي الذي يهدّد استقرار النظام.
تخبّط في طهران
يواجه الجانب الإيراني حالة من التخبّط أو غياب الرؤية الواضحة في التعامل مع تداعيات الضربة الأميركية – الإسرائيلية المشتركة، عندما حاول تأكيد فشل الضربة العسكرية وعدم تحقيق الهدف الذي أعلنه ترامب بتدمير البرنامج النووي.
سياسة الغموض النووي التي اعتمدتها طهران حيال مصير المنشآت المتضرّرة ومصير كميّات اليورانيوم المخصّب بنسبة 60 في المئة، ثمّ تعليق التعاون مع الوكالة الدولية وعدم السماح بعودة مفتّشي الوكالة، لم تخدم الهدف الإيراني واستراتيجيته في محاولة العودة إلى طاولة التفاوض بالشروط التي يريدها، والتي تقوم أساساً على مبدأ الاعتراف بامتلاك دورة تخصيب على الأراضي الإيرانية.
كانت تهدف هذه الاستراتيجية إلى إبقاء الإدارة الأميركية في دائرة القلق من مستقبل الأنشطة النووية، لتسمح لطهران بفرض شرطها بمنع تفكيك هذا البرنامج، وقطع الطريق أمام ضغوط جديدة وانتقالها إلى ملفّات أخرى، خاصّة تلك المرتبطة ببرنامجها الصاروخي والطائرات المسيّرة اللذين باتا يشكّلان خطّ الدفاع الأوّل للنظام في مواجهة التهديدات والضغوط.
تتزامن الخطوات التصعيدية التي اعتمدتها طهران، والتي بلغت حدّ التلويح بإمكان الانسحاب من معاهدة الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ووضع هذه الخطوة على جدول أعمال البرلمان، مع مسار دبلوماسي يسعى إلى إقناع عواصم الترويكا الأوروبية بالتهدئة وعدم الذهاب إلى تنفيذ الرغبة الأميركية بتفعيل آليّة الزناد لإعادة العقوبات الدولية، والإصرار على التفاوض مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية للتوصّل إلى اتّفاق جديد على آليّات التعاون بتأثير من تداعيات الضربة العسكرية.
خشبة الخلاص المصريّة
أنكرت طهران أيّ دور وسيط تقوم به دولة مصر عبر وزير خارجيّتها بدر عبدالعاطي لتفكيك ألغام أزمة إيران مع الوكالة الدوليّة، إلّا أنّ استضافة القاهرة ورعايتها للقاء بين وزير الخارجيّة الإيرانيّ عبّاس عراقجي ومدير الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية رافائل غروسي (المتّهم إيرانيّاً بتزويد إسرائيل بتفاصيل وأسرار البرنامج النوويّ)، أكّدت دور القاهرة المثمر، وأنّ طهران لجأت إليها لتسهيل التواصل وترتيب التسوية مع الوكالة، ليحصل كلّ طرف على الحدّ الأدنى من مطالبه وشروطه. نجحت مصر في تعطيل فتيل تصعيد إقليميّ مفتوح على مروحة احتمالات واسعة، ووفّرت أرضيّةً تسمح لطهران بتفكيك الألغام التي زرعها قرار الترويكا الأوروبيّة بتفعيل آليّة الزناد وعودة عقوبات مجلس الأمن، من خلال تلبية الشرطَين الأوروبيَّين:
1- استئناف تعاونها مع الوكالة.
2- عودة المفتّشين لممارسة عملهم الرقابيّ، خصوصاً لمعرفة مصير مخزون اليورانيوم المخصّب بدرجة 60 في المئة، وحجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت التي تعرّضت للضربة الأميركية.
بانتظار ما سينتهي إليه الجدل الداخليّ الإيراني في شأن خطوة عراقجي مع غروسي، وما سيكون عليه موقف البرلمان ومن فوقه المجلس الأعلى للأمن القوميّ، يبدو أنّ عراقجي حاول إبعاد نفسه عن أيّ مسؤوليّة مباشرة عن نتائج هذا اللقاء، بإعادة التفاوض في الملفّ النوويّ إلى المجلس الأعلى للأمن القوميّ. وهو ما يعني أنّ الخارجيّة لم تعد سوى منفِّذ لما يقرّره المجلس الذي لا تأخذ قراراته صفة التنفيذ إلّا بعد موافقة المرشد الأعلى.
مع تراجع إيران أمام الشروط الأوروبيّة، تنتظر عواصم الترويكا تجاوبها مع الشرط الثالث المرتبط بعودة إيران إلى طاولة التفاوض المباشر هذه المرّة مع الولايات المتّحدة الأميركية، التي تحتفظ من جهتها بشرطها الأساس، وهو تفكيك البرنامج النووي وإنهاء أيّ نوع من أنشطة تخصيب اليورانيوم داخل إيران.
سباق مع الزّمن
تخوض إيران سباقاً مع الزمن، في محاولة لإعادة المفاوضات مع واشنطن والترويكا الأوروبيّة إلى المسار النوويّ في مهلة العشرين يوماً الباقية قبل طرح الطلب الأوروبيّ على مجلس الأمن لاتّخاذ قرار تفعيل العقوبات من جديد. ذلك لأنّ تحويل الأزمة النووية وحصرها في دائرة التعاون مع الوكالة الدولية وشروطها، يعني أنّ هذه الأنشطة لم تعد تشكّل القلق الأساس لواشنطن وحلفائها، وأنّ الخطوة التالية هي طرح المخاوف من البرنامج الصاروخي الذي يمثّل مصدر تهديد جديد لا بدّ من إجبار طهران على التفاوض عليه، وصولاً إلى تفكيكه أو حصر تهديداته بمدَيات لا تتجاوز 300 كليومتر، في حين أنّ عودة واشنطن إلى الخيار العسكري ستكون على رأس خيارات التعامل مع إيران في المرحلة المقبلة.
المسار التنازليّ في الموقف الإيراني من حقّ التخصيب، الذي بدأ بالقبول بتخصيب عند مستوى 20 في المئة، ثمّ تراجع إلى مستوى 3.67 في المئة، ثمّ قبِل بتعليق أنشطة التخصيب على الأراضي الإيرانية مقابل إلغاء العقوبات الاقتصادية، يكشف محاولات إيران لإقناع واشنطن بالعودة إلى التفاوض على هذا البرنامج وعدم الانتقال إلى البرنامج الصاروخي.
تقطع جهود تشديد الحصار الماليّ والتجاري والاقتصاديّ الطريق أمام إمكان انهيار النظام داخليّاً الذي يخدم الهدف النهائي لواشنطن وتل أبيب، سواء عبر ضربة عسكرية جديدة مباشرة في حال تأكّدت واشنطن أنّ الذهاب إلى هذا الخيار لن تنتج عنه خسائر لا يمكن تحمّلها كما حصل في الجولة الأولى، أو من خلال تسهيل حصول اضطرابات داخلية قد تؤسّس لإحداث تغيير جذري وجوهري في النظام.
حسن فحص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.