إيران “تكوّع” نحو الواقعيّة؟
بقلم بديع يونس
«أساس ميديا»
تمارس واشنطن الواقعيّة في سياستها الخارجية، بعيداً عن التعلّق بأهداب الشعارات النظريّة الكبرى التي ما زالت أوروبا “العجوز” تتمسّك بجلبابها. فالواقعيّة أمر معتاد في السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيادتها للعالم الحرّ. لا مفرّ من الاعتياد عليها أكثر مع وجود دونالد ترامب في سدة الرئاسة.
يتمادى ترامب بممارسة الواقعيّة المفرطة الليبراليّة لدرجة وصفه برجل الصفقات الكبرى الهاوي بشدة لإنجازها، ولتحقيقها ولو على حساب بعض المواقف التقليدية المعتادة.
على الضفّة الروسيّة، وبعد انهيار الاتّحاد السوفياتي وحلول فلاديمير بوتين مكان بوريس يلتسين، تميّز الرئيس الروسي بالواقعية حينما اعتمد النظام الحرّ وفتح أسواق روسيا الاتحادية للراسمالية الجشعة مع تكون الاحتكارات الكبرى، لا سيما في قطاعات المعادن والنفط والغاز والزراعة والبتروكيميائيات.
لكنّ بوتين نفسه وفي حربه في أوكرانيا انعطف وارتدّ عن هذه الواقعية عائداً لموروثات وأحلام الاتحاد السوفياتي القديمة. رفض مخطّط ترامب واستراتيجيّته لإنهاء الحرب الدامية، وتمنّع عن لقاء الرئيس فولوديمير زيلينسكي في الفاتيكان للحوار. امتنع أيضاً عن المجيء إلى تركيا، واستعاض عن الحوار بهجمات عسكرية إضافية تنذر بصيف ساخن على هذه الجبهة. ارتأى بوتين بلحظة مفصليّة أن يحذو حذو ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ اون كأحد عشاق الدوغماتيّة المناقضة للبراغماتيّة والواقعيّة.
هل تستلم إيران للواقعيّة أم تحذو حذو بوتين؟
بعد 46 عاماً من التصلّب واللاواقعيّة، ومن ممارسة أشدّ انواع الشعارات المتطرّفة المغايرة لمظاهر الحياة الطبيعية التي كان أقلّها شعار تصدير الثورة، وسياسة ممارسة التوسّع لجعل العالم بكامله على صورة ومثال ملالي إيران، بدأت طهران تنحو منحى أكثر واقعيّة، وإن كانت تريد مع ذلك الحفاظ على نظامها القائم على التوتاليتاريّة بزعامة المرشد و”الزعيم الأوحد”.
باتت على دراية بأنّ متطلّبات العصر تفرض الانفتاح، فيما يتطلّع الشعب الإيراني بكامل فئاته لا سيما الشباب، إلى ركب قطار التقدم الذي تعيقه سياسة النظام الحالي.
إيران مأزومة
بدوره يعيش نظام الملالي أزمات عميقة، فيراوح مكانه ولا يستطيع أن يقدّم لشعبه سوى شعارات ثورية “فارغة” لا تغني ولا تسمن، ولا تشبع متطلّبات العصر. لا يستطيع أن يُقدّم لشعبه ما يحتاج إليه.
تتجلّى تراجعات النظام الإيراني، ومحاولته التحلّي بالواقعيّة، والابتعاد عن أيديولوجية العداء لكلّ ما هو عصريّ وحضاريّ، من خلال انتهاجه للخطوات التالية:
– وقف اعتبار “أميركا الشيطان الأكبر” والتوقّف عن دوس علمها عند كلّ منعطف رسمي تنظمه طهران، وصولاً إلى محاربة كلّ من يتهجّم على أميركا في إيران، وتحديداً على الرئيس ترامب، حتّى لو كانت صحيفة “كيهان” ذاتها الناطقة باسم المرشد والمحسوبة عليه.
– الدخول بمفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع أميركا، وإصرار إيران على حضور كلّ المباحثات المنعقدة من دون مقاطعة أيّ منها.
– التراجع عن المواقف المتصلّبة وما كان تسمّيه طهران الخطوط الحمر، بينها نسبة التخصيب المرتفعة، والتخلّي عن إبقاء كميّات اليورانيوم المخصّب بنسب مرتفعة على أراضيها وموافقتها على تصدير هذه الكميات إلى الخارج.
– اعلان مستشار المرشد علي شمخاني لقناة “أن بي سي نيوز” أنّ بلاده تتعهّد بعدم تصنيع أسلحة نووية، واستعدادها للتخلّص من مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب، والإبقاء على مستويات منخفضة للاستخدام المدنيّ لا العسكري.
– موافقة إيران على تشديد رقابة الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة على مواقعها النووية المعلنة وتلك السريّة، ودخولها واجراء تدقيق بداتا الكاميرات والموادّ، من دون اعلام السلطات الإيرانية مسبقاً بذلك، إضافة للترحيب بحضور مفتّشين ومراقبين أميركيين.
– امدادها الوفد الاميركي المفاوض بلائحة تتضمّن مواقع التخصيب السريّة وعدد أجهزة التخصيب وأنواعها، بحجّة بناء الثقة بين الطرفين.
– عدم استقواء ايران بكلّ من الصين وروسيا وبما يسمّى الاتّجاه شرقا بالرغم من الاتّفاقات المعقودة معهما، لأنّ من يعتمد على اميركا لا حاجه له لبديل.
– لكن الاكثر جذبا للانتباه وما يثير الاهتمام، هو الضغط الإيراني الواضح على الحوثيّين لوقف تعدّياتهم على الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
واقعيّة مستجدّة
طبعا، هذه “الواقعيّة” المستجدّة لم تأتِ من عدم، وإنّما هي نتيجة الخسائر الاقتصادية غير المسبوقة، وخسارة نظام الاسد في سوريا، واعلان “الحزب” استعداده لتنفيذ اتّفاق وقف النار المكمّل لقرار مجلس الأمن الرقم 1701 بكامل بنوده.
من الطبيعي أن تتكرّر تجربة الاتّحاد السوفياتي على إيران. فعندما انهار جدار برلين وسقطت الأيديولوجية المتحجّرة التي مارستها موسكو لاكثر من سبعين عاماً، انهار دومينو المعسكر الاشتراكي بكامله، وتغيّرت احوال روسيا وانتقلت من وراء ستار النظام الحديدي.
إنّ هجر ايران للأديـولـوجـيـة الخمينيّة ولو رويداً وبخطوات قصيرة ومتباعدة، سيقود حتماً إلى تحقيق أماني الشعب الإيراني الصامد، وعسى أن تفهم طهران ألّا تكرر تجربة بوتين، الذي انتقل للواقعية قبل أن يعود لموقعه الحالم بأمجاد “الاتّحاد السوفياتي”.
“واقعيّة” إيران المستجدّة يجب التعامل معها بحذر حتّى يتأكّد طيّ صفحة الأيديولوجية وأنها لن تعود مجدداً إلى مشاريعها التوسّعية المزعزعة للاستقرار بعد رفع العقوبات عنها ودخولها ركب التقدّم لحين من الزمن.
بديع يونس
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.