اقترب عيد الجيش: متى يُحصَر السلاح بيد الدولة؟

26

بقلم د. ابراهيم العرب

في الذكرى الثمانين لتأسيس الجيش اللبناني، يقف الوطن أمام محطّة وطنية جامعة، نستعيد فيها قيمة هذه المؤسسة التي ما زالت، رغم كل الانهيارات، تمثّل الركن الصلب والأخير للدولة اللبنانية. فبينما تنهار مؤسسات الدولة تحت وطأة الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية منذ أكثر من ست سنوات، يواصل الجيش اللبناني أداء واجبه الوطني بثبات وتفانٍ، محافظًا على ما تبقى من صورة الدولة وهيبتها.

في هذا السياق، يعود إلى الواجهة السؤال الجوهري: متى يُحصَر السلاح بيد الدولة؟

فلا أمن ولا استقرار ولا سيادة من دون أن تحتكر الدولة وحدها استخدام القوة الشرعية، ممثلةً بمؤسساتها الأمنية والعسكرية الشرعية، وعلى رأسها الجيش اللبناني.

إن مبدأ احتكار الدولة للسلاح ليس شعارًا نظريًا، بل هو أحد أسس الدولة الحديثة كما عبّر عنه عالم الاجتماع ماكس فيبر، الذي اعتبر أن الدولة هي الكيان الوحيد المخوّل قانونًا باستخدام القوة البدنية داخل حدودها. من هنا، فإن وجود أي سلاح خارج إطار الدولة، لا يشكل فقط خطرًا على هيبتها وسلطتها، بل يُهدد السلم الأهلي ويضعف الشعور بالمواطنة والانتماء. وفي الحالة اللبنانية، حيث تتشابك الولاءات وتتعدد القوى، تصبح هذه المسألة مسألة بقاء لا خيار فيها.

لقد تكرّست ازدواجية السلاح في لبنان كأحد أبرز عوامل الوهن في بنية الدولة، ومصدر استفزاز دائم لضباط الجيش وجنوده الذين ينذرون حياتهم لحماية الوطن في إطار الشرعية، بينما يُسمح لقوى أخرى بممارسة أدوارٍ عسكرية خارج سلطة الدولة ومؤسساتها. وهذا الواقع المريض، بدل أن تتم مواجهته بقرار واضح من مجلس الوزراء، استمر بفعل التسويات والتوازنات الهشة، رغم المطالبات المتكررة من اللبنانيين، ومن المجتمع الدولي، وفي مقدمهم المبعوث الأميركي توماس بَرّاك الذي دعا مؤخرًا إلى إنهاء هذه الظاهرة الخطيرة.

وفي هذا الإطار، لا يمكن الحديث عن دولة حقيقية من دون بسط سيادتها على كامل أراضيها، ولا سيادة من دون حصرية قرار الحرب والسلم بيد المؤسسات الدستورية، ولا مؤسسات دستورية فاعلة إذا كانت هناك قوى مسلحة خارجة عن طوعها. وبالتالي، فإن حصر السلاح بيد الدولة هو مدخل إلزامي لإعادة بناء دولة قوية، وشرط أساسي لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية.

وهنا، يبرز الجيش اللبناني، كما في كل المراحل المفصلية من تاريخ الوطن، صمّام الأمان وضمانة الاستقرار. فمنذ تأسيسه الرسمي عام 1945، مرورًا بالحرب الأهلية، واحتلال الجنوب، وصولاً إلى المعارك ضد الإرهاب، وعمليات حفظ الأمن في الداخل، أثبت الجيش التزامه الثابت بشعاره «شرف، تضحية، وفاء». ولم يكن في يوم من الأيام طرفًا في نزاع داخلي، بل كان دومًا على مسافة واحدة من الجميع، وعلى خط الدفاع الأول عن جميع اللبنانيين دون تفرقة أو تمييز.

إن ما يميّز الجيش اللبناني ويمنحه هذه المكانة الفريدة في وجدان اللبنانيين، هو أنه مؤسسة شرعية خاضعة للقانون، وملتزمة بالدستور، وخاضعة لرقابة القضاء، ومرتبطة بقرار السلطة السياسية المنتخبة. هذه العناصر مجتمعة هي التي تجعل الجيش اليوم المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحظى بالإجماع الوطني والثقة الشعبية، في وقت فقد فيه الشعب ثقته بمعظم مؤسسات الدولة الأخرى.

فالجيش لا يمثل طائفة ولا حزبًا، بل يمثل لبنان بكل أطيافه. وهو لا يتحرك إلا ضمن الأطر القانونية، وقرارات مجلس الوزراء، وخطط وزارة الدفاع، وتوجيهات رئيس الجمهورية. هذا الانضباط القانوني والدستوري هو الضمانة الحقيقية لعدم انحراف المؤسسة العسكرية عن دورها الوطني، وهو ما يجعل الشعب اللبناني يطمئن إلى وجود الجيش، حتى عندما لا يثق بأي جهة أخرى.

تتوزع مهام الجيش اللبناني، بحسب قانون الدفاع الوطني، على ثلاث وظائف رئيسية: دفاعية لحماية الحدود، أمنية لحفظ النظام الداخلي، وإنمائية لدعم جهود الدولة في مشاريع التنمية، ولا سيما في الأرياف والمناطق المحرومة. وعلى الرغم من ضعف الإمكانات، والضائقة الاقتصادية الخانقة، يواصل الجيش أداء هذه المهام بجدارة ومثابرة.

على الحدود الجنوبية، يواجه الجيش تحديات جسيمة في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، والسعي الدائم لتطبيق القرار 1701. وفي الشمال والشرق، يخوض الجيش معركة يومية ضد التهريب وتسلل المسلحين والإرهاب، في مناطق شاسعة ووعرة لا تخضع كلها لرقابة فعالة من الدولة. ورغم هذه الظروف، يواصل الجيش أداءه بكل مهنية، محافظًا على هيبة الدولة، وحاضرًا في كل استحقاق أمني كبير.

أما في الداخل، فلطالما لعب الجيش دور الحكم والحامي في لحظات الفوضى والفراغ، مانعًا انزلاق البلاد إلى الفتنة، أو الانهيار الكامل. وكانت قياداته المتعاقبة حريصة على عدم الانجرار إلى الاستقطابات السياسية، رغم الضغوط والانقسامات. واليوم، يقود الجيش تحت إشراف العماد رودولف هيكل مرحلة دقيقة من تاريخ لبنان، تتطلب أعلى درجات الحرفية والانضباط، وسط تحديات غير مسبوقة.

في المقابل، لا يمكن الاستمرار في تحميل الجيش وحده مسؤولية حماية الوطن، دون أن يحصل على الدعم الكامل سياسيًا وماديًا ومعنويًا. فالضباط والجنود الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن لبنان يستحقون حياة كريمة، ورواتب لائقة، وتجهيزات حديثة، وسياسة دفاعية واضحة تستند إلى حصرية السلاح بيد الدولة. كما أن إنهاء ظاهرة السلاح غير الشرعي، وعدم التمييز بين جيش رسمي وآخر رديف، هما واجب وطني وأخلاقي في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان.

إنَّ عيد الجيش اللبناني هو عيد كل لبناني يؤمن بلبنان الدولة، لا بلبنان الطائفة أو الزعامة أو الدويلة. وهو مناسبة لنرفع الصوت ونطالب بحماية هذه المؤسسة التي لا تزال تُجسّد أمل اللبنانيين بوطنٍ موحّد، آمن، مزدهر. ولكي يبقى الجيش حامي الأرض والعرض والكرامة، يجب أن تحسم القوى السياسية موقفها من قضية السلاح، وأن تلتف حول المؤسسة العسكرية، لا أن تساوم على دورها أو تحاول تقويضه.

ومع اقتراب هذه المناسبة العزيزة، نقول: شعبنا كله يقف خلفكم يا جنود الوطن وضباطه الشرفاء، يا من جعلتم من الشرف والتضحية والوفاء عنوانًا لحياتكم. أنتم السياج الأخير لهذا الوطن، والدرع الذي لا ينكسر، والمثال الأعلى للمؤسسة التي لا تتخلى عن واجبها.

كل عام وأنتم بخير، وعسى أن يبقى الجيش اللبناني دائمًا الجامع والضامن وجسر الوحدة بين أبناء الوطن، حتى يعود لبنان دولة واحدة، بجيش واحد، وسلاح واحد، وقرار واحد.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.