الاتفاق النووي الإيراني برعاية مصرية: تحول في ميزان الدبلوماسية الإقليمية…

9

د. خالد العزي

في تطور غير مسبوق، وقّعت إيران اتفاقًا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية برعاية مصرية، في تحرك لافت يعكس بروز الدور العربي، لا سيما المصري، في الملف النووي الإيراني، بعد أن كانت الرعاية والتأثير حكرًا على القوى الأوروبية والغربية. هذا التحول الدبلوماسي قد يُمهد الطريق لاستئناف المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، وربما أيضًا لفتح صفحة جديدة في العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطهران، المجمدة منذ أكثر من أربعة عقود.

جاء الإعلان عن الاتفاق عقب اجتماع ثلاثي عُقد في القاهرة بتاريخ 9 أيلول الجاري، جمع وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ونظيره الإيراني عباس عراقجي، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي. وأعلن عبد العاطي أن التفاهم مع إيران يشمل آلية جديدة للتواصل في ظل المستجدات التي طرأت عقب الهجمات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة على منشآت نووية إيرانية.

الدور العربي يتقدم… وإسرائيل تعرقل

لم يكن لهذا الاتفاق أن يمر مرور الكرام في ظل التصعيد المتواصل من جانب إسرائيل. فمع استمرار الهجمات الإسرائيلية على أهداف داخل عدة دول عربية، وتحديدًا في قطر مؤخرًا، بات من الصعب الحديث عن تفاهم عربي–إسرائيلي في المدى المنظور. لقد أثارت العمليات العسكرية الإسرائيلية موجة غضب عارمة في الشارع العربي، وأعادت إحياء الأسئلة حول جدوى “السلام الإبراهيمي” والموقف الأميركي المتواطئ — أو الصامت على الأقل — إزاء الممارسات الإسرائيلية.

وفي الوقت الذي تدّعي فيه إسرائيل محاربة الإرهاب، كانت تقوم بتدمير ممنهج للبنى التحتية في أكثر من سبع دول عربية، من بينها العراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة، وتدفع بسكان المناطق الحدودية إلى النزوح تحت ذريعة “الأمن القومي”. آخر تلك الضربات كانت ضد قطر، في ظل غياب واضح لأي رد أميركي فعّال، بل وتأكيد ضمني على إعطاء الضوء الأخضر لتل أبيب لتنفيذ عملياتها دون رادع.

القاهرة وطهران… علاقة معقدة وتاريخ ثقيل

رغم التصريحات الإيجابية التي خرجت من الاجتماع الثلاثي، فإن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران لا يزال معقدًا. العلاقات انقطعت عام 1979 بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد، ومنذ ذلك الحين، ورغم محاولات متكررة، لم يتحقق اختراق حقيقي في هذا الملف. فمصر، بعكس بعض الدول الخليجية، لا تستعجل منح إيران “شرعية عربية”، بل تتعامل معها بحذر استراتيجي طويل المدى، مدفوع بتاريخ من التوترات.

في هذا السياق، تعتبر القاهرة من أبطأ العواصم العربية في إعادة العلاقات مع خصومها؛ فقد كانت آخر من طبّع العلاقات مع تركيا بعد سنوات من التوتر، واستغرقت وقتًا طويلًا لتبني موقفًا متساهلًا تجاه قطر، ولا تزال متحفظة تجاه سوريا. أما مع إيران، فإن الانفتاح لا يزال يسير “بالوتيرة المصرية” البطيئة، ولكن الثابتة.

مع ذلك، شكلت زيارة عراقجي إلى القاهرة في حزيران الماضي نقطة تحول، حيث أكد في مؤتمر صحفي أن “العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران ممكنة الآن أكثر من أي وقت مضى”، في إشارة إلى تقارب لم يكن مطروحًا بهذا الوضوح في السابق. وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع لا يزال يتطلب جهودًا إضافية وتجاوزات لعقبات عديدة.

إيران وإعادة تموضعها الإقليمي في ظل العدوان الإسرائيلي

إيران، من جانبها، تحاول إعادة تموضعها إقليميًا، وتفعيل أدواتها الدبلوماسية بدلًا من التصعيد العسكري. وهي تدرك أن استمرار العدوان الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا قد يشكل خطرًا استراتيجيًا على وجودها، لكنه أيضًا يمنحها فرصة لإعادة بناء علاقات جديدة، خاصة مع الدول العربية التي بدأت تعيد حساباتها بشأن مدى الاعتماد على واشنطن كضامن أمني.

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قال في بيان رسمي إن اتفاق استئناف التعاون “يفسح المجال أمام الدبلوماسية والحوار، تمهيدًا للعودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى تسوية سلمية للبرنامج النووي الإيراني”. وهي رسالة ضمنية إلى كل من إسرائيل والولايات المتحدة بأن مصر قادرة على لعب دور الوسيط والموازن الإقليمي، في وقت تتخبط فيه واشنطن بين دعم إسرائيل والاحتفاظ بتحالفاتها العربية.

لحظة إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط

يبدو أن الشرق الأوسط يقف اليوم عند مفترق طرق جديد، تعاد فيه صياغة التوازنات والتحالفات بعيدًا عن المسارات التقليدية. لم تعد الرؤية الاستراتيجية التي تقوم على محور عربي موالٍ لواشنطن ومعادٍ لإيران صالحة بالكامل. بل بدأت ملامح تكتلات جديدة تظهر، فيها هامش دبلوماسي أكبر للدول العربية — وخاصة مصر — لتلعب دور الوسيط لا التابع.

الاتفاق النووي الجديد بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، برعاية مصرية، ليس مجرد خطوة تقنية تخص تخصيب اليورانيوم أو تفتيش المنشآت، بل هو مؤشر على بداية تحول سياسي أعمق. وإذا نجحت مصر في استثمار هذا الدور، فقد تجد نفسها في موقع محوري لإعادة ضبط المعادلة الإقليمية، على قاعدة الموازنة بين إيران والدول العربية، بعيدًا عن الاستقطاب الحاد الذي غذّته إسرائيل والولايات المتحدة لسنوات.

في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة الكبرى مطروحة: هل تستفيد إيران من هذا الانفتاح لتغيير سلوكها الإقليمي؟ وهل تملك مصر الإرادة السياسية الكافية للاستمرار في هذا المسار حتى النهاية؟ أم أن العواصف القادمة — سواء من تل أبيب أو واشنطن — ستُجهض هذا التقارب قبل أن يكتمل؟

د. خالد العزي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.