البابا في لبنان: تعميم السّلام الإبراهيميّ؟
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
ما الذي تخبّئه زيارة البابا للبنان في هذا المفصل الإقليميّ الدقيق؟ هل يندرج حضوره في خانة التضامن الروحيّ أم في إطار رسالة سياسيّة تتجاوز الحدود اللبنانيّة؟ وهل يحمل خطاب الحبر الأعظم إشارات إلى مسار تسوية أوسع في الشرق الأوسط، أم يكتفي بإعادة التشديد على ثوابت الفاتيكان التاريخيّة تجاه لبنان؟
عند استقبال البابا لاون الرابع عشر في القصر الجمهوريّ، طرح الرئيس جوزف عون معادلة للسلام في الشرق الأوسط تقوم، كما جاء في كلمته، على “رجاء شفاء النفوس والقلوب والعقول من الأحقاد والحروب والدمار”.
حذّر الرئيس من أنّه “إذا تعطّل لبنان أو تبدّل فسيكون البديل حتماً خطوط تماسّ، في منطقتنا والعالم، بين شتّى أنواع التطرّف والعنف الفكريّ والمادّيّ، وحتّى الدمويّ”.
جزم الرئيس أمام البابا أنّ “بقاء لبنان كما هو قائم اليوم هو شرط لقيام السلام والأمل والمصالحة بين أبناء إبراهيم كافّة”.
من خلال هذه الإشارة الرمزيّة إلى أبناء إبراهيم، يشير الرئيس بصورة مباشرة إلى مشروع “السلام الإبراهيميّ” الذي اعتمده الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أساساً لسياسته في الشرق الأوسط منذ دورته الرئاسيّة السابقة.
بداية متجدّدة ومستمرّة
لم يكن الرئيس اللبنانيّ بعيداً في طرحه عن روح المبادرة التي يبدو أنّ البابا لاون الرابع عشر حرص على تسويقها من خلال كلمته التي ألقاها في القصر الجمهوريّ، والتي تمّت صياغتها بلغة دبلوماسيّة راقية. فقد حملت الكلمة معاني ضمنيّة أشدّ وسامة سياسيّاً من المعاني المباشرة التي ألقى الضوء عليها.
انطلق البابا في كلمته من طرح السؤال التالي: ماذا يعني أن نكون فاعلي سلام في ظروف بالغة التعقيد ومليئة بالصراعات والاضطرابات؟
حاول الإجابة على هذا السؤال من خلال إقراره بأنّ “عمل السلام هو بداية متجدّدة ومستمرّة، والالتزام من أجل السلام ومحبّة السلام لا يعرفان الخوف أمام الهزائم الظاهرة ولا يسمحان للفشل بأن يثنيهما. بل إنّ طالب السلام (وهنا يبدو واضحاً أنّه يعني بذلك لبنان) يعرف أن ينظر إلى البعيد”، مؤكّداً أنّ “بناء السلام مثابرة وحماية الحياة ونموّها تتطلّب إصراراً وثباتاً”.
من الواضح أنّ في ذلك دعوة بابويّة للبنان إلى الإصرار والثبات على عمليّة السلام. ومن الواضح أيضاً أنّ البابا في دعوته إلى العمل على ما سمّاه “شفاء الذاكرة”، وفي إقراره بأنّه لا يمكننا أن نبلغ الحقيقة إلّا باللقاء (اللقاء مع من؟ وأين؟ وكيف؟). وإذا لم نفعل ذلك حذّر البابا من خطر مراوحتنا في مكاننا، كلّ واحد أسير آلامه ورؤيته للأمور.
في ضوء هذه التلميحات المباشرة، أعلن البابا أنّنا لا يمكن أن نبلغ الحقيقة إلّا باللقاء، وأنّ الحقيقة والمصالحة تنموان دائماً معاً فقط”.
هناك “معاً” للداخل اللبنانيّ المتعدّد الأديان والمذاهب، وهناك “معاً” للداخل الإقليميّ المتعدّد القوميّات والأديان، وهناك “معاً” لمسرح الصراع العربيّ – الصهيونيّ. وتبدو الدعوة إلى الحقيقة والمصالحة دعوة عامّة تشمل أو لا تستبعد أيّ واحدة منها.
لقد أبدى البابا رأيه بشكل صريح ومباشر عندما قال إنّ السلام ينمو في سياق حيّ وعمليّ قوامه روابط جغرافيّة وتاريخيّة وروحيّة.
في نهاية كلمته وصف البابا السلام بأنّه “طريق يحرّكه الروح القدس الذي يضع القلب في حالة إصغاء، ويزيد انتباهه واحترامه للآخرين”.
“ليت هذا الشوق إلى السلام”، قال البابا، “ينمو بينكم، الشوق الذي ينبع من الله ويستطيع أن يغيّر هذا اليوم طريقة نظركم (أيّها اللبنانيّون) إلى الآخرين” (من هم هؤلاء الآخرون؟)، “فتسكنوا معاً هذه الأرض، الأرض التي يحبّها الله حبّاً عميقاً ويستمرّ في مباركتها”.
لم يسمِّ البابا الأرض. فربّما كان يعني أرض لبنان، وربّما كان يعني أرض فلسطين، وربّما الاثنتان معاً، باعتبار أنّهما كما وصفهما هو نفسه “الأرض التي يحبّها الله حبّاً عميقاً ويستمرّ في مباركتها”.
ترسيخ المصالحات التّاريخيّة
في كلمته أمام البابا قال الرئيس عون إنّ الهدف الأساس هو: شفاء النفوس والقلوب والعقول من الأحقاد والحروب والدمار، محذّراً من أنّه “إذا تعطّل لبنان أو تبدّل فسيكون البديل حتماً خطوط تماسّ في منطقتنا والعالم، بين شتّى أنواع التطرّف والعنف الفكريّ والمادّيّ وحتّى الدمويّ”.
الوجه الآخر لهذا القول أعلنه البابا في كلمته عندما أقرّ بمعاناة اللبنانيّين من تداعيات اقتصاد قاتل وعدم الاستقرار العالميّ الذي خلّف آثاراً مدمّرة في المشرق أيضاً والتشدّد وتصادم الهويّات والنزاعات. “لكنّكم”، قال البابا، “أردتم وعرفتم دائماً أن تبدؤوا من جديد”.
يقف لبنان اليوم أمام أبواب بداية جديدة. وفي الوقت ذاته تقف المنطقة أيضاً أمام أبواب جديدة. والبدايتان متلازمتان. فهل يكون السلام في المنطقة أساس السلام في لبنان؟ وهل يكون البداية الجديدة؟
يقول البابا لاون الرابع عشر إنّ السلام طريق يحرّكه الروح القدس. ويستشهد بأقوال سَلَفه و”ملهمه” البابا الراحل فرنسيس الذي توفّي وفي نفسه شوق لزيارة لبنان ليقول إنّ الأخوّة الشاملة والصداقة الاجتماعيّة داخل كلّ مجتمع هما قطبان لا ينفصلان ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما.
تتمثّل العلامة الفارقة بذلك في وصفه لهذه المعادلة بأنّها تحدٍّ ليس فقط للبنان، بل لكلّ الشرق. وهذا الربط في مواجهة التحدّي بين لبنان والشرق يبرز من جديد على أنّه العمود الفقريّ للاستراتيجية الفاتيكانيّة في الشرق الأوسط منذ صدور وثيقة “نوسترا إيتاتي” في عام 1965 حتّى اليوم.
في هذه الوثيقة التاريخيّة، تصالحت الكنيسة مع نفسها عندما اعتبرت الأرثوذكسيّة والإنجيليّة كنيستين لا “حركتين مسيحيّتين” فحسب، وتصالحت مع اليهوديّة عندما أسقطت مسؤوليّة “صلب” السيّد المسيح عن جميع اليهود حتّى قيام الساعة، وحصرت الإدانة بمرتكبي الجريمة. وتصالحت مع الإسلام عندما اعتبرته ديناً سماويّاً توحيديّاً “نتشارك معه في عبادة الله الواحد”.
في ضوء هذه “المصالحات” التاريخيّة تأتي زيارة البابا لاون الرابع عشر للبنان في ذكرى “نوسترا إيتاتي” لتدفع الإيمان والالتزام بها قدُماً إلى الأمام، ليس في الإطار العقديّ – الدينيّ فحسب، بل وفي الإطار الواقعيّ السياسيّ – الاجتماعيّ أيضاً.
محمد السماك
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.