التطاول على البطريرك الراعي… إساءة للوطن ورموزه

7

بقلم د. ابراهيم العرب

ما صدر مؤخراً من تصريحات مسيئة بحق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بعد مقابلته الأخيرة مع قناة “العربية” يشكّل تجاوزاً خطيراً لكل الأصول الوطنية والأخلاقية. فالبطريرك الراعي ليس مجرد رجل دين، بل هو مرجع وطني جامع، يجسّد الضمير الحيّ للبنان، ويستمد مواقفه من ثوابت الدولة اللبنانية القائمة على السيادة والدستور والمساواة بين جميع أبنائها.

إن التطاول على بكركي هو في جوهره تطاول على لبنان ورسالته، لأن البطريركية المارونية كانت منذ تأسيس الوطن صخرة الصمود في وجه مشاريع التفتيت. وإذا كان من الطبيعي أن نختلف في الآراء، فإن تحويل هذا الاختلاف إلى حملة تخوين وتشهير يمثّل سقوطاً وطنياً لا يليق بتاريخ هذا الشعب ولا بحجم التحديات التي تواجهه.

إنّ المواقف التي أطلقها غبطته في مقابلته مع قناة “العربية” جاءت واضحة وحاسمة، لتضع النقاط على الحروف في زمن الغموض. فقد قال البطريرك بوضوح: “القرار الوطني يجب أن يبقى بيد الدولة اللبنانية وحدها، ولا شرعية لأي سلاح خارجها”. وفي موقف لا لبس فيه، شدّد على أن “شعار المقاومة سقط يوم أعلن مجلس الوزراء أن السلاح يجب أن يكون حصراً بيد الجيش اللبناني”.

كما خاطب حزب الله مباشرة برسالة وطنية خالصة: “فكّروا بلبنانيتكم قبل أي ارتباط خارجي، فالشيعة طائفة لبنانية كريمة وليست مشروعاً إيرانياً”. ولم يكتفِ بذلك، بل كشف حقيقة الواقع القاتم قائلاً: “حزب الله نفسه مخترق من الداخل، وهذا ما يضاعف خطر استمرار الوضع الحالي”. أما عن الحرب الأخيرة تحت شعار “إسناد غزة”، فقد أطلق الراعي موقفاً تاريخياً حين قال:”هذه الحرب جلبت الخراب والدمار للبنان في وقت يحتاج فيه الوطن إلى إعادة البناء لا إلى التدمير”. وفي تحذير من المخاطر الإقليمية، أضاف: “إسرائيل لديها مشروع توسّعي تاريخي، وإذا لم نحصّن وحدتنا الداخلية سنكون الضحية الأولى”.

ولم تقتصر مواقف البطريرك الراعي على النقد الداخلي، بل حملت أبعاداً إقليمية مهمّة، أبرزها الإشادة بزيارته السابقة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز أطال الله بعمره، هذه الزيارة التي كانت قد جاءت لتؤكد عمق انتماء لبنان إلى محيطه العربي، ولتعيد التذكير بالدور التاريخي الذي لعبته الرياض في دعم الاستقرار اللبناني. ففي زمن الانقسامات الحادة، حملت هذه الزيارة الاستثنائية رسالة واضحة مفادها: أن لبنان لا يمكن أن يعيش منعزلاً في محور خارجي، بل يحتاج إلى الانفتاح على عمقه الطبيعي، العالم العربي. وفي هذا السياق، قال الراعي: “لا خلاص للبنان إلا بدعم أشقائه العرب وبالتعاون مع المجتمع الدولي، بعيداً عن سياسة المحاور والارتهان”. وهذه الرسالة تتكامل مع دعوة غبطته لعقد قمة روحية مسيحية – إسلامية لتعزيز الحوار بين المكوّنات اللبنانية، وترسيخ العيش المشترك كضمانة أساسية لاستقرار البلد.

كما أنّ هذه المواقف ليست خروجاً عن دور بكركي، بل استمرار لنهجها التاريخي منذ مئة عام. فمنذ أن أعلن البطريرك الحويك قيام لبنان الكبير عام 1920، مروراً بمواقف البطريرك صفير في وجه الوصاية السورية حين رفع شعار السيادة والحرية، كانت البطريركية المارونية الصوت الوطني الأبرز لحماية لبنان. واليوم، يسير البطريرك الراعي على الخط ذاته، مؤكداً أن لا خلاص للبنان إلا بعودة القرار إلى الدولة الشرعية، بعيداً عن الدويلات ومشاريع المحاور. فلماذا كل هذا الهجوم عليه؟ برأينا، السبب واضح: لأن البطريرك الراعي قال ما يخشاه البعض، وهو أن بقاء السلاح خارج الدولة يعني نهاية فكرة الوطن. فمن لا يحتمل منطق الدولة، يلجأ إلى حملات التشهير والتخوين. لكن الحقائق تبقى أقوى من أي افتراء، والبطريرك لم يقل سوى ما تردّده الأكثرية الساحقة من اللبنانيين اليوم: لا دويلة داخل الدولة، ولا سلاح خارج الشرعية، ولا وطن بلا سيادة.

في الختام، إن التطاول على البطريرك الماروني ليس مجرد خطأ معنوي، بل اعتداء صارخ على مقام وطني وروحي يمثّل الركيزة الأساسية لوحدة لبنان. ومن يظن أن استهداف بكركي يمكن أن يمرّ مرور الكرام فهو واهم، لأن المساس بهذه المرجعية هو مساس بالثوابت الوطنية التي لا مساومة عليها. ولهذا، نقولها بوضوح: “إنّ الاختلاف في الرأي حق، أما التطاول على الرموز الدينية فهو خطيئة وطنية لا تُغتفر”. وعليه، فليرتفع الخطاب السياسي إلى مستوى التحديات بدل الانحدار إلى لغة التخوين والتحريض. وليعلم الجميع أن بكركي كانت وستبقى صخرة الحق في وجه كل مشاريع الهيمنة، وصوت الدولة في زمن الفوضى، وحصن الوحدة في زمن الانقسام، شاء من شاء وأبى من أبى.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.