التنسيق المصري- السعودي: صناعة الموقف العربي..

1

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

أطاح العدوان الإسرائيلي على قطر، معادلات سياسية عربية واقليمية عدّة. هو ليس مجرّد استهداف لدول خليجية يمثّل مجلس تعاونها بقيادة السعودية أحد أهم مراكز الاقتصاد العالمي والاعتدال السياسي، ولا كسراً لمعادلة التطبيع العربي مقابل الدولة الفلسطينية، بل هو بمثابة إنذار أخير توجّهه إسرائيل لدول المنطقة بأنّ عليها الرضوخ لفائض قوتها والانصياع لمشيئتها وإرادتها في رسم مستقبل الإقليم.

الدول العربية والاقليمية أيّاً كان حجمها ووزنها السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ لا يمكن أن تقبل بهذا التهديد الصريح والاستثنائي، لا قسّراً ولا على مضض. لكن دولتين أساسيتين، تشكلان الثقل الأساسي العربي، معنيتان بالردّ لتغيير المسار: مصر والسعودية اللتان بدأتا، منذ قبل الهجوم على الدوحة، باطلاق مواقف عالية ضدّ الارتكابات الإسرائيلية في فلسطين. شرّعتا منذ اللقاء المشترك بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الشهر الماضي، في صوغ سياسات مشتركة تهدف إلى تعزيز الأمن الإقليمي وإعادة الزخم إلى مسار تسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية، ودعم منظومة تعاون عربية- إقليمية قائمة على المصالح المتبادلة، واحترام القانون الدولي، وأمن وسيادة دول المنطقة بصورة متساوية.

تتحسّس القاهرة والرياض خطورة الهجوم على قطر، ووجدتا في الحشد الديبلوماسي العربي والإسلامي الذي أعقبه، فرصة لإعادة التوازن إلى المشهد العربي والانتقال من موقع المتلقي للتطورات إلى صانع المواقف، والتنسيق مع دول إسلامية فاعلة كتركيا وباكستان وإيران ومن يرغب من دول الخليج والمغرب العربي لتأسيس منظومة للأمن والتعاون الإقليمي على غرار “إعلان هلسنكي 1975” في أوروبا. ذلك أنّ الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة في العالم التي تفتقر إلى مثل هذه المنظومة، وهو ما جعلها عرضة للمشاريع المشبوهة منذ وعد بلفور حتّى “صفقة القرن” والهجوم الإسرائيلي الحالي والمفتوح على دول المنطقة.

“قوّة عربيّة مشتركة”

هكذا، بينما يستمر التنسيق المصري والسعودي مع فرنسا بهدف تكثيف الضغط الدولي على إسرائيل في المحافل الدولية، تسعى القاهرة إلى الحصول على الدعم اللازم لاقتراح السيسي القديم، باطلاق “قوة عربية مشتركة” على غرار حلف شمال الأطلسي “الناتو”، تكون قادرة على التحرك لـ”حماية أي دولة عربية تتعرّض لاعتداء”.

بحسب ما نقلت الصحف عن مسؤول مصري، فإنّ القاهرة تعمل على صوغ مقترحات لآلية عمل القوة “تتيح استخدامها عند مقتضى الضرورة، وتشكيلها بما يتناسب مع التعداد السكاني للدول العربية وقواتها المسلحة، مع مراعاة التوازنات الإقليمية والسياسية في التشكيل، سواء بالنسبة إلى إشراك عسكريين من دول مثل المغرب والجزائر، أو تقاسم مناصب القيادة؛ إذ تريد القاهرة الاحتفاظ بالقيادة الأولى مقابل منح المنصب الثاني للسعودية أو لإحدى دول الخليج”.

المقترح المصري يُعاد تقديمه مجدّداً بالتنسيق والتشاور مع السعودية التي ستكون “ثانية أكبر القوات عدداً في القوة في حال تشكّل” القوة المزمعة.

عقبات تقنية وسياسية كثيرة تواجه تشكيل هذه القوة . لكن طرحها اليوم ناجم عن إحساس بالخطر الجماعي يهدد الأمن القومي والسيادة والكرامة الوطنيتين بعد استباحة إسرائيل كلّ الخطوط الحمر.

للصبر المصري حدود

مصر لا تشعر لا بالأمن ولا بالأمان مع جارة تكشف كل يوم عن نياتها الخبيثة والعدوانية. بنيامين نتنياهو اتهمها بأنها “تحتجز” سكان غزّة وتمنعهم من مغادرة القطاع المنكوب، الذي يرتكب فيه جيشها حرب إبادة وتجويع ممنهجة. تصريحاته ضدها لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع لمشروع “إعادة تشكيل وجه الشرق الأوسط” وأحلام “إسرائيل الكبرى”. تهديده بوقف تصدير الغاز إليها، بذريعة “خروق لاتفاقية السلام”، ونشر تعزيزات عسكرية على حدودها، يكشف عن تصعيد مدروس يتجاوز مجرّد التوتر الثنائي، ليصبّ في رؤية توسّعية تتحدّى الترتيبات الإقليمية القائمة.

إسرائيل مستاءة من القاهرة لرفضها نقل سكان غزة إلى سيناء. تهددها بفتح الحدود ودفع مليون نازح فلسطيني في اتجاه مدينة رفح المصرية والعريش. لا تقيم اعتباراً لمعاهدة كمب ديفيد التي خرقتها مرّات عدة، وتبدي استعداداً أكبر لتجاوز كل مضامينها بما في ذلك شنّ هجمات واغتيالات على أراضيها مثلما فعلت في الدوحة.

في المقابل، للصبر المصري حدود. الردّ الموازي لم يتأخر. آلتها الإعلامية وفضائياتها انتقلت من المناداة بالحكمة والهدوء وضبط النفس، إلى ما يشبه التعبئة العامة والحديث عن القوة العسكرية المصرية والقدرة على ردع أيّ عدوان. العسكر والاعلام في مصر باتا في خندق واحد وموقف واحد: مصر ليست في موقع الدفاع السلبي بل في موقع الردع الاستباقي. وهي لا تنفك تردّد: لا نريد الحرب ولن نبادر إليها لكننا سنخوضها إذا ما فرضت علينا. تحافظ على قنوات التواصل مع الولايات المتحدة لكنها في الوقت نفسه تعيد تشريع أبوابها مع ايران.

الرياض ترفع السقف

موقف السعوديين من الممارسات الإسرائيلية لا يقل غضباً عن موقف المصريين. الاعلام السعودي عبّر عن ذلك بعد استهداف قطر.  قناة “الإخبارية” المملوكة من الدولة، وصفت  بنيامين نتنياهو بأنّه “سليل عائلة صهيونية متطرفة وهو لا يؤمن بالسلام ويرى في الحرب إنقاذاً لمستقبله”.

لا تزال الرياض تشكل الحاجز الأبرز أمام التطبيع العربي المجاني. ربطت أي خطوة في اتجاهها بقيام الدولة الفلسطينية، الكلمة السحرية التي تنغّص ليل نتنياهو الذي يسعى بكل ما أوتي من بطش للقضاء لمحوها من القواميس. بذلت السعودية جهوداً ديبلوماسية لتأمين أوسع حشد لمبدأ “حل الدولتين”، حتى يصير مطلباً دولياً يحظى بالتأييد. هذا الأمر الذي يسير على طريق الإنجاز بعد انضمام الدول الغربية الكبرى، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا إلى ركبه، سيجعل الدولةَ الفلسطينيةَ كياناً قانونيّاً قائماً، حتى لو لم تقبل به إسرائيل.

نجحت في إقامة شبكة من العلاقات الدولية المتوازنة إقليمياً ودولياً ما أهّلها للاضطلاع بأدوار الوساطة في ملفات عالمية جعلت منها نقطة ارتكاز واستقطاب دولية أساسية في الشرق الأوسط منافسة لإسرائيل، التي تنحدر صورتها في المجتمع الدولي إلى أدنى مستوياتها.

من رد الفعل إلى الفعل

الدعوة المصرية إلى تشكيل القوة العربية المشتركة (حتى لو تحققت اليوم)، لا تعني أنّ الردّ الحربي بات وشيكاً، وأنّ الدبابات ستتوجّه إلى الحدود ومنصات الصواريخ ستنصب، والقواعد العسكرية الأميركية ستغلق. بل يعني أنّ هناك محاولة جدية لإعادة تعويم التعاون العربي والدفاع المشترك، حتى لا تواصل إسرائيل اطمئنانها إلى أنّه في استطاعتها مواصلة لعبتها بقضمنا دولة تلو الأخرى بالمفرق.

إنّ الإصرار السعودي على مسار حل الدولتين والاعتراف الدولي به لا يعني أنّ الدولة الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى، لكنه يعني أنّ فلسطين لا تزال قضية عربية ودولية لن تنسى ولن تترك، وأنّ التطبيع ليس بالمجان، وأنّ التهويل الحربي الإسرائيلي مهما بلغ بطشه وجبروته لن يشطب لا فلسطين ولا قضيتها.

هذا ما يجعل من المسارين أكثر قدرة على التأثير والردع والانتقال من مرحلة التلقي ورد الفعل إلى مرحلة الفعل وقلب المشهد، تعميق التفاهم المصري – السعودي وفتح آفاقه أمام إشراك دول أخرى عربية وإسلامية.

أمين قمورية

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.