التّوتّر بين ترامب ونتنياهو: العرب يستعيدون التّوازن

13

بقلم موفق حرب

«أساس ميديا»

تبدو العلاقة بين واشنطن وتل أبيب اليوم وكأنّها تدخل مرحلة جديدة تختلف عمّا اعتدناه خلال السنوات الماضية. فالرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، الذي كان ينظر إليه كأقرب حليف لبنيامين نتنياهو، بدأ يعبّر علنا عن استيائه من سياسات الأخير، محذّرا من أنّ إسرائيل “لا تستطيع أن تقاتل العالم”، ومؤكّدا أنّ أيّ خطوة نحو ضمّ أجزاء من الضفّة الغربيّة ستكون “خطّا أحمر” يهدّد الدعم الأميركيّ التقليديّ.

في مقابلة حديثة، قال ترامب إنّه مارس ضغوطا مباشرة على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار في غزّة، معتبرا أنّ استمرار الحرب بلا سقف زمنيّ يضرّ بصورة إسرائيل ويحرج الولايات المتّحدة أمام العالم. تحدّث أيضا عن الضفّة الغربيّة بوصفها “اختبارا للنوايا”، وهو ما يعكس إدراكا أميركيّا بأنّ التشدّد الإسرائيليّ لم يعد يخدم الاستقرار ولا المصلحة الأميركيّة في المنطقة. بمعنى آخر: واشنطن بدأت تنظر إلى سلوك إسرائيل من خلال ميزان المصلحة لا العاطفة السياسيّة.

عوامل وازنة ومؤثّرة

يترافق هذا التحوّل مع بنية علاقات شخصيّة واسعة نسجها ترامب مع قادة عرب ومسلمين، من السعوديّة والإمارات وقطر ومصر إلى تركيا. لم يعد هذا النوع من العلاقات مجاملات دبلوماسيّة وحسب، بل أصبح عاملا مؤثّرا في مقاربة واشنطن للمنطقة.

لا تقدّم لترامب القيادات التي تتواصل معه مواقفّ سياسيّة فقط، بل تقدّم له تصوّرا استراتيجيّا جديدا يرى أنّ استقرار المنطقة وإعادة إعمار غزّة وتبريد الجبهات كلّها مداخل ضروريّة لبناء مرحلة تعاون اقتصاديّ وأمنيّ أوسع.

تمنح هذه الدائرة الشخصيّة ترامب ما لم يكن متاحا في السنوات السابقة: منظورا إقليميّا واسعا لا إسرائيليّا فقط. وقد وظّف ترامب هذا المنظور في التحذير الذي أطلقه خلال مقابلته مع مجلّة “التايم” حين قال إنّ أيّ ضمّ للضفّة الغربيّة “سيوقف الدعم الأميركيّ بالكامل”، في تصريح بدا مقصودا لتأكيد التزامه تجاه الشركاء العرب، وليس فقط لإرسال رسالة لنتنياهو.

تلاقى هذا التغيّر في اللهجة الأميركيّة مع مواقف عربيّة أكثر وضوحا وتنسيقا. فقد صدرت بيانات مشتركة ترحّب بوقف النار وتربط مستقبل التطبيع بضبط السلوك الإسرائيليّ في الضفّة. وللمرّة الأولى منذ سنوات، يبدو أنّ الدور العربيّ شريك في صياغة المرحلة المقبلة لا متلقّ للقرارات وحسب.

ترافقت عوامل عدّة مع حرب غزّة ساهمت في تحوّل في الرأي العامّ الدوليّ ولم تعد أميركا بعيدة عن هذا التغيّر. فقرارات محكمة العدل الدوليّة وتحذيرات المنظّمات الإنسانيّة، والتغطيات الإعلاميّة الواسعة كلّها أسّست إطارا دوليّا ضاغطا لا يمكن تجاهله. تحذير ترامب لنتنياهو من أنّ “إسرائيل لا يمكنها أن تقاتل العالم” لم يعد عبارة فقط، بل خلاصة معادلة سياسيّة – قانونيّة – إعلاميّة تتشكّل أمام الجميع.

في الجانب الأميركيّ الداخليّ أيضا، لا يمكن تجاهل رسالة كتبتها مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيّين لترامب، طالبوه فيها بأن يشدّد بشكل مضاعف على معارضته لأيّ ضمّ من قبل إسرائيل للضفّة الغربيّة. فقد وقّع 45 سناتورا على رسالة تذكّره بأنّ خطّة واشنطن لوقف إطلاق النار في غزّة لم تتطرّق إلى الضفّة، وبأنّ أيّ ضمّ أحاديّ الجانب يضعف حلّ الدولتين ويهدّد أسس السلام.

نتنياهو يتفادى الصّدام

في مقابلة ترامب مع مجلّة “التايم”، كرّر تحذيره لإسرائيل من أنّ “دعم الولايات المتّحدة الكامل” قد يتوقّف إذا أقدمت على ضمّ الضفّة، قائلا بشكل حاسم: “لن يحدث. لن يحدث لأنّني قطعت عهدا للدول العربيّة”.

يظهر كلّ هذا أنّ ترامب لا يتصرّف فقط كمن يمسك بالعصا أو بالمكافأة، بل كـ”لاعب ذكيّ” في المشهد الإقليميّ: يستغلّ العلاقات الشخصيّة للحصول على تأييد عربيّ وإسلاميّ، وينظر إلى الكونغرس والرأي العامّ الداخليّ كقوّة ضغط، ويضع حدودا واضحة أمام حليفه الإسرائيليّ. هذا المزج بين الدبلوماسيّة الشخصيّة والضغط المؤسّسيّ يجعل تحوّل دوره في الشرق الأوسط أكثر واقعيّة وربّما أكثر تأثيرا على الأرض. وكلّ ذلك يمنح البيت الأبيض هامشا سياسيّا أوسع لإعادة تشكيل العلاقة مع إسرائيل دون كلفة داخليّة مرتفعة.

من المتوقّع أن يحاول نتنياهو تفادي الصدام المباشر مع واشنطن عبر تخفيض حدّة خطاب الضمّ، والتركيز على لغة “الدفاع عن الأمن”، ومضاعفة الجهود الأمنيّة المشتركة مع الأميركيّين في ملفّات مثل إيران والدفاع الصاروخيّ. الهدف واضح: الحفاظ على الدعم الأميركيّ مع أقلّ قدر ممكن من التعديلات الميدانيّة.

ما يجري اليوم ليس قطيعة، بل إعادة تعريف للتحالف، تحوّل من علاقة تقوم على الانسجام الشخصيّ والرمزيّة السياسيّة إلى علاقة تضبطها المصالح واستقرار الإقليم وضغط القانون الدوليّ وتوازنات الداخل الأميركيّ.

قد لا يصل هذا التحوّل إلى “السلام الشامل” فورا، لكنّه يفتح الباب أمام مسار سياسيّ كان يبدو مغلقا. وفي التاريخ، غالبا ما تبدأ التحوّلات الكبرى من لحظات التوتّر لا من لحظات التوافق.

موفق حرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.