الدبلوماسية السعودية الجديدة ومحاولة إنقاذ النظام العربي من التفكك
بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
في لحظة تشهد فيها المنطقة العربية تحولات جذرية تمتد من إعادة رسم خرائط النفوذ إلى إعادة تعريف مفهوم الدولة نفسها وتبدو الجامعة العربية أمام امتحان وجودي يتجاوز مسألة الإصلاح الإداري أو تطوير آليات العمل المشترك. لان الأمر يتعلق اليوم بالسؤال الأعمق هل ما زال لهذا الإطار العربي الجامع قدرة على التأثير في مستقبل الإقليم أم أنه يتحول تدريجياً إلى مؤسسة رمزية تعيش على ذاكرة زمن مضى؟ .
منذ تأسيسها عام 1945 حملت الجامعة العربية تناقضاً داخل بنيتها فهي تجمع دولاً مستقلة ذات مصالح متباينة لكنها مطالبة في الوقت نفسه بوضع حد أدنى من العمل المشترك الذي يعكس هوية سياسية مشتركة. ورغم نجاحات جزئية في لحظات تاريخية معينة فإن العقود الأخيرة كشفت هشاشة البنية المؤسسية وغياب الأدوات التنفيذية ما جعل الجامعة أقرب إلى ساحة للتعبير عن الخلافات بدل من كونها مؤسسة لصنع القرار. ومع ذلك فإن التحولات الحالية في النظام الإقليمي العربي تفرض مراجعة عميقة لهذه الصورة إذ لم يعد ممكناً أن تستمر الجامعة بالدور نفسه وهي تشهد أمامها إعادة تشكيل محاور جديدة واتساع أدوار القوى الإقليمية غير العربية وتزايد تغلغل القوى الدولية في ملفات المنطقة.
ومن بين أبرز التحولات التي تشهدها الجامعة العربية اليوم صعود أدوار دول الخليج ليس فقط كقوى مالية أو نفطية بل كمراكز لصياغة سياسات إقليمية لها تأثير مباشر في ملفات متعددة مثل التطبيع وأمن البحر الأحمر والأزمات الاقتصادية وحتى النزاعات المسلحة. لان هذا التحول يغيّر توازن القوة داخل الجامعة نفسها فلا يمكن المقارنة بين ثقل هذه الدول وبين دول أخرى تعيش أزمات وجودية أو اقتصادات منهارة أو انقسامات داخلية. ومع أن الجامعة تقوم رسمياً على مبدأ المساواة في السيادة فإن الواقع السياسي يجعل العلاقة بين الدول العربية غير متكافئة بحيث يملك البعض القدرة على التأثير فيما يكتفي الآخرون بالمراقبة أو رد الفعل.
وفي هذا السياق برزت السعودية كفاعل أساسي يحاول إعادة بناء التوازن داخل النظام العربي ليس فقط من موقع الثقل الاقتصادي والسياسي بل إدراكا منها بأن غياب النظام العربي يعرض المنطقة لفوضى مفتوحة وتدخلات متزايدة. ولهذا فقد قادت المملكة خلال السنوات الأخيرة جهوداً متعددة لإعادة ترميم العلاقات بين الدول العربية بدءاً من رعاية المصالحات الثنائية مروراً بفتح قنوات الحوار بين أطراف متنازعة وصولاً إلى محاولات إعادة إدماج بعض الدول في المنظومة العربية رغم سنوات من القطيعة. كما دفعت نحو مقاربة أكثر واقعية لتسوية النزاعات مركزة على مبادئ الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية وإعادة توحيد المواقف في القضايا الكبرى. والدور السعودي لا يعكس فقط رغبة في ترميم الجامعة بل في بناء بيئة إقليمية مستقرة تكون فيها الجامعة إطاراً داعماً لا عبئاً على التوافقات العربية. ورغم أن جهود المملكة تصطدم بتباين المصالح بين الدول العربية إلا أنها تبقى أحد أهم المحاولات الجادة لإعادة إحياء مفهوم العمل العربي المشترك في لحظة تعاد فيها صياغة توازنات المنطقة
وفي موازاة هذا الدور التقليدي ظهرت الدبلوماسية السعودية الجديدة بصفتها أحد أبرز محركات التحول داخل الجامعة العربية في السنوات الأخيرة. فالمملكة لم تعد تتعامل مع الملفات العربية بمنطق رد الفعل أو بمنطق النفوذ الأحادي بل تتقدم بمقاربة أكثر براغماتية وشمولاً تجمع بين أدوات القوة الناعمة والوساطة السياسية والتأثير الاقتصادي. وقد انعكس ذلك في سلسلة تحركات دبلوماسية هدفت إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدول العربية على أسس أكثر واقعية تقوم على خفض التوترات وتوسيع مساحة الحوار وتقديم مبادرات يمكن للجامعة احتضانها بدلاً من الاكتفاء بالبيانات. وهذا الأسلوب الجديد جعل السعودية قادرة على تحويل اللحظات الخلافية إلى فرص لتقريب المواقف وأسهم في دفع الجامعة نحو أدوار أكثر فاعلية سواء في معالجة بعض الأزمات أو في رعاية مسارات سياسية جديدة. وبهذا المعنى أصبحت الدبلوماسية السعودية الجديدة أحد العوامل التي تحاول نقل الجامعة من حالة الجمود إلى حالة الحركة عبر توظيف نفوذ المملكة كقوة توازن لا كقوة فرض وكجسر بين الأطراف المتباعدة لا كطرف في الصراع.
ومن المهم هنا إدراك الأثر المتوقع للدور السعودي في العقد القادم في صياغة مفهوم جديد للشرعية العربية المشتركة. فالسعودية بفضل وزنها السياسي والاقتصادي والديني تحولت إلى مركز ثقل قادر على إعادة تعريف معنى الشرعية الإقليمية لا بوصفها امتداداً لنفوذ دولة واحدة بل باعتبارها قدرة جماعية على حماية الاستقرار وتعزيز التنمية وخفض الصراعات وبناء شبكات تعاون تمتد من الأمن إلى الاقتصاد ومن الطاقة إلى التكنولوجيا. وهذا التحول يمنح المملكة موقعاً يسمح لها بتقديم رؤية جديدة للجامعة تقوم على تحويلها من منصة ردود أفعال إلى منصة استباقية قادرة على صياغة مبادرات عربية شاملة. وفي ظل طموحات الرياض على مستوى المنطقة والعالم وخاصة في إطار رؤيتها المستقبلية للتحول الاقتصادي والاجتماعي يمكن القول إن الدور السعودي لن يكون مجرد دعم سياسي بل محاولة لإعادة صياغة قواعد العمل العربي نفسه عبر منح الجامعة العربية وظيفة تتناسب مع التحولات العالمية وتعيد الاعتبار إلى مفهوم القيادة الجماعية بدلاً من الزعامة الفردية. وبهذه المقاربة تستطيع السعودية أن تخلق نموذجاً جديداً للتفاعل العربي يعتمد على بناء التوافقات الدائمة لا التسويات المؤقتة ويعزز مكانة الجامعة كجهاز يرتكز على فعالية القرار لا شكليته.
إلى جانب ذلك أدت الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا والانقسامات السياسية الحادة في السودان ولبنان والعراق إلى خلق بيئة عربية مفككة إلى الحد الذي بات من الصعب معه تصور مشروع عربي موحّد. فالجامعة العربية التي تنصّ قوانينها على احترام سيادة الدول تجد نفسها عاجزة عن التأثير في نزاعات داخلية تتحول إلى حروب إقليمية بالوكالة حيث تختلط الحدود بين المحلي والإقليمي والدولي. وهذا العجز يجعل الجامعة تبدو وكأنها خارج الزمن السياسي الحقيقي أو كأنها مؤسسة محايدة تراقب الانهيارات دون أن تملك القدرة على وقفها.
لكن المفارقة تكمن في أن هذه البيئة ذاتها تحمل إمكانية لعودة دور الجامعة بشرط أن يتم الاعتراف بأن العالم العربي لم يعد كما كان وبأن النموذج القديم للعلاقات العربية لم يعد قابلاً للاستمرار. فهناك عودة تدريجية لمفهوم المصلحة المشتركة وإن جاءت من باب الضرورة أمن الطاقة أمن الغذاء والمياه وإدارة الحدود ومواجهة التطرف والهجرة واللجوء وكذلك إعادة الإعمار. فهذه الملفات بطبيعتها تتجاوز قدرة دولة واحدة وهي بحاجة إلى إطار تنسيقي فعال ولو كان الحد الأدنى منه. ومن هنا يمكن القول إن مستقبل الجامعة لا يتحدد فقط بمدى قدرتها على حل الأزمات القديمة بل بقدرتها على التحول إلى منصة لإدارة التحديات المشتركة التي تفرضها البيئة الدولية الجديدة.
علما بأن الأزمة البنيوية الأكثر تأثيراً على مستقبل الجامعة العربية مرتبطة بطبيعة القرار داخلها. إذ إن اتخاذ القرارات بالتوافق أو الأغلبية غير الملزمة جعل الجامعة عاجزة عن تنفيذ سياسات موحّدة. في زمن تتغير فيه التحالفات بسرعة وتتنافس فيه القوى الإقليمية على النفوذ وبهذا يصبح من الصعب أن تستمر مؤسسة إقليمية من دون آليات تنفيذية واضحة أو سلطة قانونية تجعل قراراتها ذات أثر فعلي. حيث ان كثير من المراقبين يرون أن إصلاح الجامعة يجب أن يبدأ من هنا أي نقلها من منتدى للحوار إلى مؤسسة للقرار وهذا يتطلب تعديلات أساسية في ميثاقها وفي تعريف السيادة الجماعية وهو أمر حساس لكنه ضروري إذا كان للعرب أن يمتلكوا قدرة تفاوضية جماعية أمام القوى الكبرى.
ومن ناحية أخرى دخول أطراف دولية جديدة إلى المنطقة مثل الصين التي أصبحت وسيطاً سياسياً واقتصادياً بين بعض الدول العربية وعودة روسيا إلى لعب دور عسكري وسياسي مباشر وتراجع الدور الأميركي التقليدي كلها عوامل تعيد تشكيل النظام الإقليمي. فهذا المشهد يجعل الجامعة أمام خيارين إما أن تصبح إطاراً لتنسيق علاقة العرب بهذه القوى أو أن تتحول إلى كيان هامشي تدار السياسات الفعلية من خارجه. ومع أن موازين القوى الحالية لا تسمح للجامعة بأن تكون لاعباً مركزياً إلا أن قدرتها على أن تصبح منصة للتنسيق الاستراتيجي ليست فكرة مستحيلة إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى بعض الدول الأساسية.
وفي خضم ذلك برزت خلال السنوات الأخيرة حقيقة أخرى أن الشعوب العربية لم تعد تنظر إلى الجامعة بوصفها إطاراً يمثل مصالحها أو يعبر عن قضاياها. فالمؤسسة تبدو للكثيرين بعيدة عن الهموم اليومية للمواطن وغير فاعلة في الملفات الكبرى مثل فلسطين أو الأزمة الاقتصادية أو حتى الكوارث الإنسانية. وهذا الانفصال بين الشارع والمؤسسة السياسية العربية يجعل أي إصلاح للجامعة غير مكتمل إذا لم يترافق مع خطاب جديد يربط بين فكرة المصير العربي المشترك وبين مصالح الناس اليومية وليس فقط مصالح الأنظمة.
ومع ذلك فإن أسوأ لحظة يمكن فيها الاستغناء عن إطار عربي جامع هي اللحظة التي تعيش فيها المنطقة فوضى ممتدة وتدخلات دولية متزايدة. إذ إن غياب إطار عربي مشترك يجعل كل دولة مكشوفة أمام الضغوط الدولية والإقليمية ويجعل التفاوض مع القوى الكبرى يتم بشكل منفرد ما يؤدي إلى إضعاف الجميع. ولذلك فإن الجامعة رغم ضعفها لا تزال تمثل الحد الأدنى من فكرة البيت العربي الذي يمكن أن يبنى عليه مستقبل منظم حتى لو من خلال آليات جديدة ومرنة.
ولهذا قد يكون مستقبل الجامعة العربية مرتبطاً بإعادة تعريف وظيفتها. فبدلاً من السعي لاستعادة نموذج الوحدة العربية بالمعنى التقليدي يمكن للجامعة أن تتحول إلى مؤسسة تنسيق عقلانية لإدارة الاختلافات لا لإخفائها. وقد تصبح منصة لتجميع الموارد المشتركة في ملفات حيوية مثل الأمن الغذائي والطاقة والبحث العلمي والبنى التحتية الإقليمية. كذلك يمكنها أن تلعب دوراً مركزياً في إعادة الإعمار في الدول التي أنهكتها الحروب عبر آليات تمويل عربية واسعة تجعل القرار العربي أكثر استقلالية عن المؤسسات الدولية.
ولهذا لا يمكن تصور مستقبل الجامعة العربية على أنه استعادة لماض مضى بل بناء لصيغة جديدة تتأقلم مع عالم شديد الارتباط وشديد التعقيد. قد لا تصبح الجامعة مؤسسة قوية بالمعنى الأوروبي لكنها تستطيع أن تكون مؤسسة مؤثرة إذا ما وضعت في إطار واضح وإدارة مشتركة للقضايا التي لا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بمفردها.
وبهذا المعنى فإن الجامعة العربية تقف اليوم أمام فرصة حقيقية رغم ظاهر الضعف. فالنظام الإقليمي في طور التشكل والتحالفات يعاد ترتيبها والفراغات السياسية بحاجة إلى مؤسسات تملأها. وإذا استطاعت الجامعة أن تتحول من مؤسسة شكلية إلى مؤسسة وظيفية فإنها قد تستعيد دوراً حقيقياً في رسم مستقبل المنطقة. أما إذا بقيت أسيرة آلياتها القديمة وانقسامات أعضائها فإنها ستتحول تدريجياً إلى إطار احتفالي بلا تأثير فيما تصاغ القرارات المصيرية خارجها.
وبين الانحسار وإعادة الولادة يقف مستقبل الجامعة العربية على مفترق طرق. والخيار ليس خياراً مؤسساتياً بحتاً بل خيار لمستقبل النظام العربي نفسه إما التشرذم والتبعية أو بناء شكل جديد من العمل المشترك قادر على مواجهة عالم لا ينتظر المترددين.
اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.