السّعوديّة وتركيا: ضبط توازنات الشّرق الأوسط

5

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

قبل أن يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 13 أيّار أنّه سيأمر برفع العقوبات الأميركية عن سوريا، كشف أنّ قراره أتى بعد التداول في الأمر مع وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان وبعد اتّصال جرى بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. طلب الزعيمان تحرير سوريا من عقوبات أميركا، فاستجاب ترامب لطلب “الصديقين”. غير أنّ في الحدث ما يكشف عن تناغم وتقاطع وتنسيق يجري بين الرياض وأنقرة قد يتعدّى الموقف المشترك الداعم لتحوّلات سوريا.

حين أصدرت وزارة الخارجية السعوديّة فجر يوم سقوط النظام السوري السابق، في 8 كانون الأوّل 2024، بياناً مؤيّداً داعماً للحدث السوريّ، سهُل على المراقب أن يستنتج أنّ الرياض تلاقي من دون تردّد وعلى عجل سياقاً قيل إنّ تركيا تدعمه. وفيما بدا أنّ عملية “ردع العدوان” في ساعات انطلاقها الأولى، في 27 تشرين الثاني الماضي، هدفها ممارسة ضغوط على نظام سوريا السابق لدفعه للانخراط في تفاهمات مع تركيا، فإنّ تطوّر العملية بعد ذلك باتّجاه دمشق أفرج في المنطقة عن تحوّل أجادت السعودية استشراف مآلاته.

ما زالت تفاصيل الحدث ضبابية تخفي كثيراً من التفاصيل والمعطيات الدقيقة. غير أنّ صدور البيان السعودي قبل دخول قوات “الردع” بقيادة أحمد الشرع العاصمة السورية، كشف أنّ تركيا والسعوديّة كانا في حالة تواصل وتنسيق وتبادل معلومات لإنتاج موقف واحد أطلق مظلّة رعاية إقليمية التحقت بها العواصم القريبة والبعيدة. والأرجح أنّ التشاور بشأن القضيّة السورية كان مسبقاً وكثيفاً ويقوم على مستوى عالٍ من التوافق، بحيث يصعب تصديق أنّ مواقف الدعم المشتركة للحدث السوري كانت آنية مرتجلة.

ضغوط جبّارة

غير أنّ أمر هذا التنسيق لا يقف عند حدود سوريا. تنسج كلّ من السعوديّة وتركيا علاقات مقبولة مع إيران. أبرمت الرياض وطهران في 10 آذار 2023 اتّفاقاً في بكين برعاية الصين، ثبت تمسّك الطرفين به حتّى في عزّ تعرّضه لضغوط جبّارة تناسلت من حدث “طوفان الأقصى”. وعلى الرغم من علاقة إيران بحركة “حماس” وبقيّة فصائل “المحور”، التزمت وكلّ أذرعها في المنطقة اتّفاق بكين وامتنعت عن توجيه أيّ لوم أو عتب أو انتقاد ضدّ السعودية وحلفائها في المنطقة.

فيما تتناقض مصالح إيران وتركيا في فضاءات عديدة، لا سيما في العراق وسوريا والقوقاز والموقف من المواجهة بين أرمينيا وأذربيجان.. إلخ، حافظت طهران وأنقرة على مستوى من التواصل ومستوى من العلاقات التجارية، وتمسّك البلدان بوحدة الموقف في ملفّات عديدة، بما في ذلك المتعلّق بمقاربة ملفّ الأكراد في المنطقة. حتّى إنّ معطيات أفادت أنّ طهران مارست ضغوطاً على المتحفّظين والمتردّدين في حزب العمّال الكردستاني في جبال قنديل شمال العراق للانخراط في ما انتهى إليه مؤتمر الحزب  من إعلان إلقاء السلاح وحلّ الحزب والاستجابة بشكل تامّ لنداء الزعيم التاريخي لـ PKK عبدالله أوجلان في 26 شباط الماضي.

تلتقي السعودية وتركيا في استراتيجية واحدة في التعامل مع إيران في عزّ المفاوضات القلقة والمضطربة بين واشنطن وطهران. سبق لتركيا أن وفّرت سوقاً خلفيّة شبه علنيّة لمنتجات إيران، وبيئة “ناصحة” لاقتصادها الذي يعاني بسبب العقوبات الأميركية. وأصدرت أنقرة مواقف داعية إلى حوار سلمي أميركي مع إيران، ورافضة للخيارات العسكرية التي تلمّح إليها الإدارة في واشنطن والرئيس ترامب، وتلك التي يتوعّد بها رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

لئن أبلغ ترامب نتنياهو أمام الكاميرات الدوليّة عن إعجابه بإردوغان وضرورات التفاهم معه، فإن وليّ العهد السعودي الأمير محمّد الذي يعتبره الرئيس الأميركي صديقاً صادقاً كان بعث بشقيقه وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان إلى طهران في إشارة تضامن مع إيران، واستنكار للخيارات العسكرية، وتعويل على إطلاق التعاون وضخّ الاستثمارات السعودية داخل الاقتصاد الإيراني حال توافر ظروف لذلك.

تغيير وجه المنطقة

تقدّم السعودية وتركيا بصفتهما دولتين كبيرتين سنّيّتين في المنطقة بيئة حاضنة لإيران الدولة الشيعية. يقطع الأمر أيّ احتمال لاندلاع فتنة سنّيّة شيعية، وخصوصاً أنّ سقوط نظام دمشق السابق وقيام نظام جديد سنّيّ الوجه قد يتيحان تخيّل احتمالات في هذا الصدد. تكاد أنقرة والرياض توحيان لإيران بأنّها دولة أساس في الشرق الأوسط وأنّ لها أفضل وظيفة ودور مع دول المنطقة كافّة، في حال اجتازت امتحان المفاوضات مع الولايات المتّحدة. وتبعث السعودية وتركيا إلى الولايات المتّحدة، وإلى الرئيس ترامب الصديق للرئيس إردوغان والأمير محمّد، رسائل توصي بالتمسّك بخيار الدبلوماسية مع طهران صوناً لاستقرار دول المنطقة ومصالح واشنطن فيها.

بعد ساعات على مغادرة ترامب منطقة الخليج العربي، بحث وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان مع نظيره التركي هاكان فيدان، الأحد في الرياض، سبل تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، بالإضافة إلى تطوّرات الأوضاع في المنطقة. بدا أنّ المناسبة فرصة لمزيد من النقاش والتشاور في شأن التنسيق لإدارة المواقف في شؤون عاجلة من ليبيا إلى سوريا مروراً بالسودان وغزّة وغيرها.

تقول المعلومات إنّ الرياض تنقل إلى أنقرة عناوين ما نوقش مع الرئيس الأميركي في المملكة والجوار. تحتاج السعودية وتركيا إلى حسن إدارة سعيهما الثنائي المشترك لإدارة ملفّات المنطقة. نجحت العاصمتان في تشجيع الرئيس الأميركي على اتّخاذ قرار تاريخي بشأن سوريا، ولا عجب أن يعملا معاً لحسن الإشراف على مسار التحوّلات وضبط شططها والاجتهاد معاً للمساهمة في تغيير وجه المنطقة وفق خرائط تُسقط تلك التي يتوعّد بها نتنياهو الشرق الأوسط.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.