الصفقة القادمة مع غزة: اعتراف بالهزيمة أم هروب من الانهيار؟
المحامي أسامة العرب
بعد مرور أكثر من 600 يوم على اندلاع الحرب في قطاع غزة، تجد إسرائيل نفسها في مواجهة تدهور غير مسبوق في مكانتها الدولية، يترافق مع تصاعد حدة الانقسامات الداخلية والأزمات السياسية والاقتصادية. لم تعد الانتقادات مقتصرة على الخصوم التقليديين، بل امتدت لتشمل أقرب الحلفاء الغربيين، مما ينذر بعزلة دولية خانقة ويثير تساؤلات جدية حول مستقبل علاقاتها الخارجية واستقرارها الداخلي.
تسونامي دبلوماسي يضرب إسرائيل
وصفت مصادر دبلوماسية في تل أبيب الوضع بأنه “تسونامي دبلوماسي”، وهو وصف يعكس حجم الضغوط التي تتعرض لها حكومة بنيامين نتنياهو. فقد شهدت الفترة الأخيرة تهديدات بفرض عقوبات من دول حليفة مثل بريطانيا وفرنسا وكندا. ولم تقتصر الأمور على التهديدات، بل اتخذت لندن خطوات فعلية تمثلت في إلغاء مفاوضات تجارية، واستدعاء السفيرة الإسرائيلية، وفرض عقوبات على عدد من قادة المستوطنين. كما وجه أكثر من 800 محامٍ وأكاديمي وقاضٍ متقاعد في بريطانيا رسالة إلى رئيس الوزراء كير ستارمر دعوه فيها إلى فرض عقوبات قاسية على إسرائيل وتعليق عضويتها في الأمم المتحدة، لدفعها لوقف الإبادة الجماعية في غزة. وأكدوا أن جرائم حرب تُرتكب بحق الفلسطينيين، مشيرين إلى تصريحات تحريضية من مسؤولين إسرائيليين. وطالبوا بوقف فوري لإطلاق النار، واستئناف المساعدات، ورفع الحظر عن “الأونروا”، وتنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
وكل هذه الإجراءات، وصفتها التحليلات الإسرائيلية بأنها رسالة واضحة مفادها “كفى!”، تشير إلى تحول كبير في مواقف العواصم الغربية. حتى الولايات المتحدة، الحليف الأقرب والأهم لإسرائيل، اختارت الصمت إزاء هذه الضغوط الأوروبية، وهو صمت فُسّر على أنه علامة على تراجع الدعم التقليدي. وتواترت التسريبات حول “إحباط” الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أداء الحكومة الإسرائيلية، مما يثير شكوكاً حول موقف واشنطن المستقبلي، خاصة في حال طرح مبادرات لإنهاء الحرب في مجلس الأمن الدولي. ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مسؤول إسرائيلي قوله: “نواجه موجة عداء عالمية، لا خطط، ولا حلول، فقط دمار، والعالم ضاق ذرعا”. هذا الشعور بالإحباط العالمي يتجسد في مقاطعة صامتة تتعمق يوماً بعد يوم، وتضع إسرائيل في أسوأ لحظاتها الدبلوماسية منذ عقود.
عوامل تآكل السمعة: صور الدمار والتصريحات المتطرفة
يعزو مراسل الشؤون السياسية والدبلوماسية لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، إيتمار آيخنر، هذا التحول في الرأي العام الغربي بشكل كبير إلى صور الدمار الهائل وسقوط أعداد كبيرة من المدنيين في غزة، بالإضافة إلى غياب أي خطة إسرائيلية واضحة لإنهاء الحرب أو لإعادة إعمار القطاع المدمر. يضاف إلى ذلك، تصريحات وزراء متطرفين في الحكومة الإسرائيلية، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، والتي زادت من حدة الغضب الدولي. فدعوات سموتريتش إلى “تدمير غزة وتهجير سكانها وتجويعهم”، كما أشار محلل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة “هآرتس”، حاييم ليفينسون، أثارت استياءً واسعاً في أوروبا، حيث بدأ البعض يرى أن اللحظة الحالية قد تكون “الفرصة الأخيرة” لوقف ما يعتبرونه تطهيراً عرقياً واسع النطاق.
ويرى الغرب، وفقاً للتحليلات، أن العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة تخدم أجندات سياسية داخلية لحكومة نتنياهو أكثر من كونها تحقق أهدافاً استراتيجية واضحة، خاصة مع اتهام نتنياهو بإطالة أمد الحرب رغم وجود مقترحات لوقف إطلاق النار. هذا التصور يعزز الضغوط الدولية، حيث يتشكل تحالف بين كندا وبريطانيا وفرنسا للضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب، مستفيدين من قوتهم الاقتصادية. وتلوح دول الاتحاد الأوروبي بإلغاء اتفاقيات تجارية بمليارات الدولارات، وتدرس خطوات أخرى كسحب السفراء وتعليق التعاون العلمي والثقافي. كما تقود فرنسا تحركاً للاعتراف بدولة فلسطينية بدعم سعودي، قد تنضم إليه دول أوروبية أخرى، وهو ما ترفضه إسرائيل بشدة.ولا تقتصر الضغوط على العالم الغربي، بل تمتد لتشمل الدول العربية، وخاصة دول الخليج، التي تمارس ضغوطاً على إدارة ترامب لحثها على التدخل وإنهاء الحرب، في ظل ما تراه تعنتاً من نتنياهو ورفضاً لأي مناقشة جدية لإنهاء الصراع، وتعاطيه مع قضية المحتجزين الإسرائيليين كـ”مأساة خاصة” وليست أولوية وطنية، مما يجعل مفاوضات الدوحة، بحسب ليفينسون، محكومة بالفشل.
شرخ داخلي عميق وأزمة حكومية تلوح في الأفق
بالتوازي مع العزلة الخارجية المتزايدة، تتفاقم الأزمات الداخلية في إسرائيل ويتعمق الانقسام المجتمعي. كما تتصاعد الأصوات المنتقدة لسياسات حكومة نتنياهو من داخل المؤسسة السياسية والعسكرية السابقة، مثل رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت والمسؤول العسكري السابق يائير غولان، بل ودعا رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك إلى عصيان مدني. وتواجه الحكومة خطر التفكك، حيث تمتنع الأحزاب الحريدية عن التصويت مع الائتلاف للأسبوع الثالث على التوالي، بسبب الخلاف حول قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية. وقد أثارت تصريحات يائير غولان، التي دعا فيها إلى “دولة عاقلة لا تقتل الأطفال كهواية”، جدلاً واسعاً. ورغم أن المحلل السياسي شالوم يروشالمي في صحيفة “زمان يسرائيل” اعتبر كلماته “فظيعة” حتى لو حملت مضامين صائبة حول العزلة المتزايدة، إلا أنه رأى أنها ألحقت ضرراً بمعسكر المعارضة وأحدثت شرخاً جديداً داخله، مما قد يحد من قدرته على تشكيل حكومة بديلة في المستقبل. في المقابل، سارع نتنياهو لوصف تصريحات غولان بأنها “انحلال أخلاقي”، بينما يرى كثيرون أن الانحلال الحقيقي يكمن في سياسات حكومته التي عمقت الأزمة. ومع استمرار الحرب دون أفق واضح، تتزايد المخاوف من تآكل الدعم الشعبي، خاصة في ظل الخطر الذي يهدد حياة الجنود والمحتجزين، وفي ظل حرب تبدو في نظر كثيرين بلا جدوى أخلاقية أو استراتيجية. وفي خضم هذه الأزمات الكبرى، ينشغل السياسيون بمعارك جانبية، مثل الصراع على السيطرة على المحاكم الحاخامية، والذي اعتبره الكاتب آفي بار إيلي في صحيفة “ذي ماركر” بمثابة “الطلقة الافتتاحية لمفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي المقبل، ما بعد الحرب”، كاشفاً عن أولويات بعض القوى السياسية حتى في أحلك الظروف.
تل أبيب توافق على مقترح ويتكوف وحماس تدرسه
وافقت الحكومة الإسرائيلية على مقترح المبعوث الأميركي ستيفن ويتكوف بشأن صفقة تبادل ووقف إطلاق النار، فيما تدرسه حركة حماس. يشمل المقترح إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين وتسليم جثامين 10 آخرين على دفعتين، مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار مدته 60 يوماً، تليها مفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي.
المقترح ينص أيضاً على انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي من غزة، مع الإبقاء على تمركزه في ممر فيلادلفيا، واستئناف دخول المساعدات عبر الأمم المتحدة، وإفراج إسرائيل عن مئات الأسرى الفلسطينيين.
ويتكوف أعرب عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق طويل الأمد، بينما أبدت واشنطن ارتياحاً إزاء الردود الأولية. في المقابل، اعتبر بعض المحللين أن المقترح يمثل “ردّاً إسرائيلياً” على تفاهم سابق بين حماس وويتكوف أكثر من كونه خطة جديدة، وسط غياب ضمانات حقيقية لاستمرار وقف القتال أو دخول المساعدات.
وفيما شدد نتنياهو على عدم الانسحاب من غزة قبل استعادة جميع الرهائن، قالت عائلاتهم إنه كان قادراً على التوصل إلى صفقة شاملة لكنه اختار استمرار الحرب لأسباب سياسية. أما المعارضة الإسرائيلية فقد دعت للموافقة الفورية على المقترح، فيما تبقى نقاط الخلاف الأساسية متعلقة بضمانات أميركية لحماس بشأن تنفيذ الاتفاق وعدم استئناف القتال بشكل أحادي من قبل إسرائيل.
إسرائيل على شفا أزمة غير مسبوقة
في المحصلة، تجد إسرائيل نفسها محاصرة خارجياً ومهتزة داخلياً، على شفا أزمة سياسية واقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة. فالعالم، بما في ذلك أقرب الحلفاء، يبدو وقد ضاق ذرعاً بسياساتها في غزة، والضغوط تتزايد من كل حدب وصوب.
داخلياً، يتسع الشرخ وتتآكل الثقة بالحكومة، وتلوح في الأفق أزمة ائتلافية قد تطيح بنتنياهو. وتبدو إسرائيل معزولة دولياً، باستثناءات قليلة مثل دعم رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ويترقب الجميع ما إذا كان الحليف الأمريكي سيتحرك أخيراً لإنهاء الأزمة، أم أن إسرائيل ستستمر في الانزلاق نحو مستقبل غامض ومحفوف بالمخاطر؛ ذلك أنّ إصرار إسرائيل على تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ورفضها لحل الدولتين القائم على حدود عام 1967، وعلى رأسها الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، لن يؤدي إلا إلى المزيد من العزلة والتصعيد. فالقوة وحدها لا تصنع شرعية، والاحتلال لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. وإذا لم تُراجع إسرائيل سياساتها وتقبل بالسلام العادل والشامل، فإنها تسير بخطى ثابتة نحو زوالها ككيان غير قابل للاستمرار في بيئة إقليمية ودولية تزداد اقتناعاً بأن لا أمن ولا استقرار في الشرق الأوسط من دون إنصاف الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه كاملة.
المحامي أسامة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.