الطّوائف اللّبنانيّة تسكنُ مُستحيلاتها السّياسيّة
بقلم أيمن جزيني
«أساس ميديا»
لا تغادر الطوائف اللبنانية مستحيلاتها السياسية لتدخل في رحاب الدولة. مشاريع الغلبات الطائفية والفئوية لا تزال تسكنُ في وجدان اللبنانيين. ما آلت إليه تلك المشاريع يقرّبنا اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، من حلم بناء دولة المواطنة.
على مبعدة أشهر من خطاب القسم وانطلاقة العهد الجديد، عهد الرئيس جوزف عون، تبدو الدولة أقرب ما تكون إلى التحقّق في لبنان. لا يرجع الأمر إلى خطاب القسم، ولا إلى النيّة الواضحة خلفه، ولا يرجع إلى الزخم العربي والدولي الذي يرافق العهد الجديد منذ انطلاقته بُعيد وقف إطلاق النار بين “الحزب” وإسرائيل فحسب، بقدر ما يرجع إلى اكتمال نصاب المستحيلات اللبنانية.
كانت لحظة انطلاقة العهد لحظة سياسيّة مكثّفة اختزلت في تكّاتها التاريخ اللبناني برمّته، أو تواريخ اللبنانيين، جماعات وطوائف وخيارات، لمزيد من الدقّة.
في تلك اللحظة، وقف اللبنانيون، على اختلاف مشاربهم ومشاريعهم، سواسيةً أمام الخطاب التاريخي المنشود، أي خطاب القسم.
وصلوا إلى تلك اللحظة السياسية، وقد صارت دولهم مستحيلةً. استحالة الدول اللبنانية تلك، أو استحالة تحقّق مشاريع الغلبات الطائفية والفئوية، اليوم، فما عادت أقوى من نيّة بناء الدولة، وأشدّ فاعليّةً من أيّ دعم، محلّياً كان أو عربيّاً أو دوليّاً.
دولة الشّيعة
يقف الشيعة اليوم وجهاً لوجه أمام مشروع بناء الدولة، وقد آلت دولتهم إلى سراب. فقدوا رمزهم وقائدهم التاريخي، الأمين العامّ لـ”الحزب” حسن نصرالله، وولّى عهد جمهوريّة وعهود كانت تُدار فيها الأمور من ضاحية صغيرة جنوب العاصمة بيروت.
كان يكفي أن تخرج “لا” من الضاحية الجنوبية حتّى تطير قوانين وتنام مشاريع وقرارات في الأدراج. مشروع الغلبة الشيعية ما عاد حتّى حبراً على ورق. صار أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. أقرب إلى حلم منه إلى مشروع. ذهب أدراج الرياح من حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلّة، إلى طاولة المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية المتنقّلة من سلطنة عمان إلى عواصم أخرى عدّة.
… ودولة السُّنّة
إذا كان الشيعة آخر الواصلين، فقد سبقتهم في الوصول الطوائف الرئيسية الكبرى. قبل وصولهم بسنوات وصل السُّنّة. وصلوا مضرّجين بدماء آخر زعمائهم الكبار، الرئيس الشهيد رفيق الحريري. الدولة التي كان محرّكها الأساس وبانيها بعد اتّفاق الطائف، رجلهم ورجل العرب والعالم، رفيق الحريري، اغتيلت يوم اغتيل في 14 شباط 2005. لم تعد تلك الدولة اللبنانية التي كانت عاصمتها محطّ طائرته، والمكان الذي يُجري منه اتّصالاته بالعالم، والورشة التي تنطلق منها الورش إلى أربع جهات الوطن.
ذكّر الرئيس رفيق الحريري اللبنانيين برئيس آخر كان لحظة انطلاقة الجمهورية رجلهم ورجل الآخرين في الوطن أيضاً: الرئيس الراحل رياض الصلح. اغتيل مشروع دولتهم مرّتين: مرّة باغتيال الصلح ومرّةً أخرى باغتيال الحريري.
صلة الوصل بين الاغتيالين اغتيال ثالث لا يقلّ أثراً وتأثيراً عن سابقه ولا عن لاحقه، اغتيال الرئيس رشيد كرامي. سنوات بعد اغتيال الحريري، وصل السُّنّة لكنّ العدد لم يكن قد اكتمل بعد. كانت هناك طائفة لم تجرّب حظّها بعد. وقد فعلت أمس.
أولى الدّول اللّبنانيّة
إذا كان الشيعة آخر الواصلين فأوّلهم الدروز. وصلوا حتّى قبل أن تصل الدولة اللبنانية بإعلان من قصر الصنوبر عام 1920. لكنّ وصولهم المبكّر هذا لم يحُل دون أن يسعوا ويحلموا بدولتهم، دولتهم التي كانت هنا ذات إمارة، دولة فخر الدين الأمير المعنيّ الذي ترجع التواريخ اللبنانية ومشاريع الغلبات اللاحقة كلّها إليه.
الأمير المعنيّ فخر الدين هو أوّل زعيم للّبنانيّين منذ الفينيقيين الذين كانوا إمارات أو مدناً – ممالك مستقلّة. أحداث الـ1840-1860 قضت على الحلم، إلّا أنّ الحالمين لم ينقطعوا يوماً. آخر حالم بالإمارة الدرزيّة كان كمال جنبلاط. ثمّة من يقول إنّ الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 إنّما هي حرب في سبيل “دولة” كمال جنبلاط. ذهب الحلم والحالم، وبقي المشروع في الأدراج يتنفّس الصعداء حيناً وتُكتَم أنفاسه أحايين كثيرة.
دولة بشير الجميّل
بعد الدروز، تلقّف الموارنة مشروع الغلبة. رفعوا لواءه وبنوا جمهوريّته وعهوده. يحلم الموارنة اليوم بدولتهم تلك، دولة كميل شمعون، دولة أميرهم فؤاد شهاب… ودولة بشير الجميّل. لكنّ الحلم قرب القبور كابوس، وفي أحسن أحواله أضغاث أحلام.
دولة “المسيحية السياسية”، التي كان رئيس الجمهورية الماروني فيها يمحو كلّ شيء بشحطة قلم، ولّت. اغتيلت يوم اغتيل بشير الجميّل في الرابع عشر من آب 1982، في الأشرفية. تبدو اليوم مستحيلةً، مهما كبرت الرهانات وبدت قريبةً إلى التحقّق.
لبنان اليوم، وقد اكتمل نصاب المستحيلات، عصيّ على أن تحكمه طائفة واحدة وإن بحلفاء عابرين للطوائف، عصيّ على الغلبات.
لبنان اليوم أقرب ما يكون إلى مشروع غلبة واحد وحيد أوحد: غلبة الدستور والقوانين والمؤسّسات. ولبنان اليوم أقرب ما يكون إلى دولة المواطنة، لكنّ المواطنين لم يصلوا بعد. ما زالوا على الطريق، من طوائفهم إلى حضنها.
اليوم وقد اكتمل نصاب الشهداء، من رياض الصلح إلى حسن نصرالله، مروراً بكمال جنبلاط وبشير الجميّل ورشيد كرامي ورفيق الحريري، والكثير الكثير من الشهداء، تبدو الدولة الجامعة، دولة المواطنة لا الطوائف، أقرب ما تكون إلى التحقّق. تعضُدها في ذلك عوامل عدّة، ربّما أبرزها تراجع القضيّة الفلسطينية، العابرة للدول العربية والمجتمعات العربية والإسلامية، من مصافّ “قضيّة العرب المركزية”، إلى قضيّة عقاريّة.
الدولة هذه تعضُدها أيضاً التغيّرات الهائلة التي تهبّ رياحها من الخليج العربي، وتحديداً من المملكة العربية السعودية التي تمضي اليوم، وفق رؤية وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان، نحو الحداثة.
المناداة من الرياض بحصريّة السلاح بيد الدولة اللبنانية ومحاربة الفساد الذي لطالما شكّل رافعةً لمشاريع الغلبات الفئوية كلّها في لبنان، ليست نداءً عابراً ولا جملةً تقال فحسب. إنّما هي نداء له ما بعده، نداء يخاطب هذه المرّة الغد بلغة حاسمة تُترجم على أرض الواقع دولةً في لبنان، وفي غيره من البلدان.
أيمن جزيني
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.