العرب بين صفقة ترامب ورؤية الرياض لشرق أوسط جديد

12

بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
منذ عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي العالمي دخلت المنطقة العربية مرحلة جديدة تتداخل فيها المصالح والأزمات في مشهد لا يخلو من الغموض فالإدارة الأمريكية الحالية أعادت تعريف أولوياتها في الشرق الأوسط ليس من منظور بناء التحالفات التقليدية أو رعاية الديمقراطية بل من زاوية براغماتية صِرف تقوم على مبدأ الصفقات قبل المبادئ.
هذه المقاربة والتي ظهرت في خطاب ترامب في الرياض مطلع عام 2025 أعادت ترتيب العلاقات الإقليمية على أساس تبادل المصالح الاقتصادية والأمنية مع تقليص الدور الأمريكي المباشر في النزاعات المحلية حيث ان التحوّل لم يكن شكليًا بل غيّر من توازنات القوة في المنطقة .
واشنطن التي كانت تحاول إدارة التوتر بين إسرائيل وإيران تحولت إلى فاعل يفرض إيقاعًا جديدًا عبر الضربات المحدودة والموجهة كما حدث في يونيو 2025 ضد منشآت نووية إيرانية في رسالة مزدوجة ردع طهران وطمأنة الحلفاء الخليجيين بأن الرد الأمريكي حاضر عند الضرورة غير أن هذه السياسة عززت أيضًا حالة اللايقين فالإقليم بات يعيش بين تهدئة مؤقتة قابلة للانفجار وبين صفقات اقتصادية تُستخدم كوسائل ضغط سياسي وفي ظل هذا التذبذب وجدت الدول العربية نفسها مطالبة بإعادة صياغة مواقفها لا كمستقبِلة للسياسات بل كصانعة لتوازناتها الخاصة .وفي هذا السياق برزت المملكة العربية السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بوصفها مركز الثقل السياسي والاقتصادي العربي ومحور التحوّل في مقاربة القضية الفلسطينية لان الرياض جمعت بين الانفتاح الاقتصادي في إطار رؤية 2030 والانضباط الدبلوماسي في ملفات الإقليم حيث سعت إلى نقل ملف السلام من دائرة الجمود إلى مسارٍ تنفيذي واضح لذلك قادت بمساندة فرنسيه المؤتمر الدولي لحلّ الدولتين الذي عقد في نيويورك في سبتمبر 2025 وخرج بإعلان تبنّته 142 دولة واضعًا خطة زمنية لإنهاء الحرب في غزة وتأسيس بعثة أممية لإدارة المرحلة الانتقالية بالتزامن مع التزامات مالية لإعادة الإعمار وتثبيت السلطة الفلسطينية ما ميّز الجهد السعودي هو أنه لم يتوقف عند البيان بل تحوّل إلى عملية متابعة عملية وهذه الحركة الدبلوماسية أكدت فيه ان المملكة تسعى لتجاوز مرحلة الوساطة التقليدية نحو هندسة الحلول مستخدمة أدواتها الاقتصادية والنفطية والسياسية لتثبيت موقعها كفاعل يربط بين واشنطن والعواصم العربية .
وبين الرؤية الدولية للأمن الإقليمي فسياسة ترامب القائمة على تقليص الانخراط العسكري المباشر وتوسيع الشراكات التجارية منحت الرياض مساحة أوسع للحركة لكنها حمّلتها أيضًا مسؤولية أكبر فبينما رحبت واشنطن بفصل ملف التعاون النووي المدني السعودي عن شرط التطبيع مع إسرائيل .
ولهذا قامت المملكة بتوازن بين الحفاظ على هذا الهامش السيادي وبين استمرار علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وجعلها أشبه بجسرٍ بين رغبة واشنطن في تطبيعٍ سريع ورؤية سعوديه تعتبر أن الحل السياسي العادل هو شرطٌ لأي تحول تاريخي في العلاقات مع إسرائيل .
و العالم العربي في ظل هذه التغيرات يعيش لحظة اختبار صعبة فمن جهة هناك فرصة حقيقية لإعادة تموضعه ككتلة سياسية واقتصادية مؤثرة في النظام الدولي الجديد الذي يتشكل بعد عقدين من الحروب والفوضى .
ومن جهة أخرى فإن السياسات الأمريكية الجديدة المتقلبة والانتقائية تفرض على العرب قدرة استثنائية على التكيف وإدارة المخاطر من دون الارتهان الكامل لأي قوة خارجية وبين الخطاب الأمريكي عن الصفقة الكبرى والواقع العربي المتشظي برزت المملكة اليوم في موقع القيادة الفعلية لمسارٍ عربيٍ يحاول أن يُعيد تعريف الأمن الإقليمي على أسسٍ عربية لا على إملاءاتٍ خارجية .
وفي جوهر الصورة تتقاطع ثلاثة مسارات متشابكة رغبة أمريكية في ضبط الإقليم من الخارج بأدوات اقتصادية وحراك سعودي يعمل على صياغة نظام إقليمي أكثر توازناً واستقلالية ومشهد عربي يسعى لاستعادة صوته في لحظة يتحدد فيها شكل النظام الدولي القادم وبين هذه الخطوط تتشكل ملامح مرحلة جديدة قد تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط حيث لم تعد العواصم العربية تنتظر قرارًا يصدر من واشنطن بل باتت تصوغ خطابها الخاص وتدير ملفاتها وفق أولوياتها في زمنٍ تعاد فيه كتابة قواعد اللعبة السياسية والأمنية على ضوء صفقة ترامب ورؤية الرياض لحلّ الدولتين.
اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.