العلاقات اللبنانية – القبرصية نحو المستقبل…

4

بقلم دافيد عيسى
في قلب البحر الأبيض المتوسط، تقف قبرص كجار وملاذ آمن للبنانيين. وطالما كانت قبرص، عبر العقود، ملجأ للبنانيين الذين اضطروا إلى مغادرة وطنهم نتيجة حروب الآخرين على أرضهم، فتكوّنت علاقة إنسانية وتاريخية عميقة بين الشعبين، خصوصا في ظل الإرادة السياسية الواضحة لدى القيادتين في بيروت وقبرص لإعادة بناء جسور الثقة والتنسيق.
لقد لعب الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس دورا محوريا في الدفع نحو شراكة أوثق مع لبنان، مؤكدا أن أمنه واستقراره يشكّلان عنصرا أساسيا لاستقرار شرق المتوسط.
ومن جهته أيضا، أظهر الرئيس اللبناني جوزاف عون منذ تسلّمه مهامه توجّها واضحا نحو توطيد العلاقات مع قبرص، انطلاقا من رؤية تعتبر أن لبنان يحتاج إلى توازنات وانفتاح على محيطه المباشر، خصوصا مع الدول القريبة جغرافيا والمرتبطة به تاريخيا وثقافيا. وقد جاءت زيارة رئيس الجمهورية إلى قبرص لتترجم هذا التوجّه، إذ أسفرت عن تفاهمات عملية في مجالات الأمن والطاقة والتعاون الاقتصادي.
كما برز اقتراح واعد على صعيد الكهرباء، تمثّل في إمكانية مدّ كابل بحري يربط بين قبرص ولبنان. وقد اتفق الرئيسان على متابعة الملف عبر وزيري الطاقة في البلدين، بما يعكس جدّية العمل نحو شراكة مستدامة في هذا القطاع الحيوي.
وفي سياق متصل، وافق مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة برئاسة الرئيس جوزاف عون على الاتفاقية الموقّعة مع الجانب القبرصي والمتعلقة بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، في خطوة أساسية لتعزيز حقوق لبنان السيادية وفتح آفاق جديدة في مجالات التعاون الاقتصادي واستكشاف الطاقة. وتأتي هذه الخطوة كجزء من مسار متكامل لحماية الثروات الطبيعية اللبنانية وترسيخ موقع لبنان على خريطة الطاقة في شرق المتوسط. إن ترسيم الحدود مع قبرص جاء بناء على معطيات قانونية وفنية وسيادية مدروسة، لا على حسابات سياسية ضيقة، ومن واجب الدولة اتخاذ القرارات التي تخدم مصالح لبنان العليا مهما علت أصوات المزايدين.
قبرص بالنسبة إلى لبنان ليست مجرد جار، بل بوابة نحو أوروبا وسوق واعدة للاستثمارات والخدمات، فضلا عن كونها مركزا طبيعيا لتطوير التعاون في ملفات الطاقة والاستثمار. وفي المقابل، يشكّل لبنان لقبرص شريكا أساسيا في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وممرا ثقافيا وإنسانيا غنيا بالطاقات.
ويسجّل في هذا الإطار الدور الفاعل الذي قامت به السفيرة اللبنانية في قبرص، كلود الحجل، منذ تعيينها عام 2017، في تعزيز العلاقات الثنائية وتفعيل قنوات التعاون، ما استحق تكريمها بوسام مكاريوس من قبل رئيس جمهورية قبرص عند انتهاء مهمتها وقبل مغادرتها مركز عملها.
وفي البعد الروحي – الاجتماعي، تلعب الكنيسة المارونية في قبرص دورا أساسيا في تعزيز التقارب بين البلدين، من خلال الحفاظ على تراث المجتمع الماروني القبرصي وتعزيز الروابط الروحية والثقافية بين الجانبين. كما تعمل الكنيسة على احتضان العائلات اللبنانية التي وصلت إلى قبرص هربا من ظروف الحرب، وتقديم الدعم الرعوي والاجتماعي لها، بما يعكس رسالتها في بناء جسور التضامن والتواصل
كما كان للهيئات الاقتصادية اللبنانية، برئاسة الوزير السابق محمد شقير، دور محوري في وصل مجتمع الأعمال اللبناني بنظيره القبرصي، توّج بإنشاء مجلس الأعمال اللبناني – القبرصي برئاسة رجل الأعمال جورج شهوان، ما فتح آفاقا جديدة أمام الفرص الاستثمارية.
كما ساهم رجال الأعمال اللبنانيون المقيمون في قبرص في تعزيز هذا التقارب، من خلال استثماراتهم المتنوعة التي أعطت صورة مشرقة عن الكفاءة اللبنانية وساعدت في إدماج الخبرات في الأسواق القبرصية والأوروبية.
إن ما يجمع لبنان وقبرص يتجاوز الجغرافيا، فهو تلاقي مصالح ورؤى ومصير مشترك. ويبقى على المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص متابعة تحويل هذه الرؤية إلى مشاريع ملموسة، ليصبح نموذج التعاون بين البلدين تجربة رائدة في المنطقة.
دافيد عيسى

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.