الفاتيكان 1965.. أبوظبي 2019
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
طلب الفاتيكان من كنائس الشرق تنظيم مؤتمرات وعقد لقاءات فكرية حول وثيقة «نوسترا إيتاتي» (وهي كلمة لاتينية معناها حالة عصرنا). صدرت هذه الوثيقة في أكتوبر عام 1965 عن مجمع علمي كبير استمرّ حوالي العامين. وقبل الوثيقة كان الفاتيكان يَعتبر الكاثوليكيةَ هي المسيحية، وكان يعتبر المسيحيةَ هي الديانة. بعد الوثيقة، وفي ضوء نصوصها، أصبح الفاتيكانُ يؤمن بالكنائس الإنجيلية والأرثوذكسية، ويؤمن بحصر إدانة «صلب السيد المسيح» في مرتكبي «عملية الصلب» التي تؤمن بها الكنيسةُ، وليس جميع اليهود، كما كان الأمر سابقاً. كذلك كانت المسيحية لا تعتبر الإسلامَ «ديناً» بل «رسالة بشرية». وبعد الوثيقة أصبحت الكنيسةُ تقول بالإسلام ديناً، وبالمسلمين إخوةً في الإيمان بالله الرحمن الرحيم.
تَلاقى هذا الخط الإيماني الانفتاحي الجديد مع خط إيماني إسلامي تَمثل في الوثائق الجديدة التي صدرت عن رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وعن الأزهر الشريف في القاهرة، وعن منظمة آل البيت في عَمان، وعن جمعية المقاصد الإسلامية في بيروت، وخاصة عن منتدى أبوظبي للسلم، وعن جوهرة كل هذه الوثائق الإسلامية الجديدة، ألا وهي وثيقة مراكش التي عمل عليها الإمام المجدد معالي العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. التقى الخطان الإيمانيان الجديدان، المسيحي والإسلامي، في أبوظبي عام 2019 وانبثقت عن لقائهما «وثيقة الأخوّة الإنسانية» بين إمام الأزهر الشريف الشيخ الدكتور أحمد الطيّب والبابا الراحل فرنسيس، وهي أول وثيقة تصدر عن أعلى مرجعيتين دينيتين إسلامية ومسيحية. وتؤكد على أن الدين لخدمة الإنسان وتضع برنامجَ عمل مشترك لأداء هذه الخدمة.
لم تعد صورة المسيحية بعد «نوسترا إيتاتي» كما كانت قبلها. ولم تعد العلاقات المسيحية مع الأديان الأخرى، وخاصة مع الإسلام، كما كانت قبل صدور الوثائق التي شارك في صياغتها البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر. وقد سجّل الأولُ (البابا يوحنا) سابقة في تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية عندما دعا إلى عقد سينودس (1995) حول لبنان وحول العلاقات الإسلامية المسيحية. ودعا الثاني (البابا بنديكتوس) في السينودس الذي نظّمه حول الشرق الأوسط (2010) إلى احترام الحريات الدينية وإلى الالتزام بحقوق المواطنة بين أهل الأديان المختلفة في الوطن الواحد، وهي أمور أكدت عليها وثائق الأزهر الشريف في القاهرة (2017)، ووثائق منتدى أبوظبي للسلم (2021)، ووثيقة مكة المكرمة (2019)، ووثيقة المقاصد (بيروت 2015) التي نصّت على نبذ الإكراه وعلى احترام حرية الضمير وتقبّل الاختلافات بين الناس على أنها تعبير عن الإرادة الإلهية، وأن لله تعالى وحده سلطةُ الحكم على ما في قلوب الناس وعلى «ما كانوا فيه يختلفون».
بعد وثيقة الفاتيكان «نوسترا إيتاتي» (1965) تغيّرت علاقات المسيحية مع ذاتها ومع الأديان الأخرى، وخاصة مع الإسلام. وتكامل هذا التغيير مع الوثائق الإسلامية الجديدة التي صدرت بعد موجة التطرّف والإرهاب التي عصفت بالعديد من دول العالم الإسلامي.
وهكذا تتكامل اليوم وثيقة «نوسترا إيتاتي» المسيحية مع الوثائق الإسلامية التجديدية لتتلاقى هذه الوثائق الانفتاحية الإيمانية في وثيقة واحدة تجسّدها «وثيقة الأخوة الإنسانية» (أبوظبي 2019). ومن أجل ذلك تشكل هذه الوثيقةُ الترجمةَ المشتركة لروحية التجديد الفقهي الإسلامي واللاهوتي المسيحي في إطار الوحدة الإنسانية.
محمد السماك
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.