الكويت تعود إلى ما وراء الأسوار

5

نايف سالم – الكويت

«أساس ميديا»

اشتُهرت الكويت وعُرفت سياساتها الخارجية بالتوازن الدقيق والحياد والتفاعل الإيجابيّ والقوّة الناعمة لدرجة أنّها تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي يُجمع عليها إيجاباً أهل لبنان، البلد المعروف بجمع أطيافه وطوائفه تناقضات شتّى يصعب معها إيجاد قاسم مشترك بينهم.

لكنّ الكويت اختلفت كثيراً في السنوات القليلة الماضية، ويمكن القول إنّها بدأت منذ 2020 المرحلة الرابعة في تاريخها على مستوى السياسة الخارجية، التي تقوم على أساس الانكفاء “إلى ما وراء السور” للتركيز على الداخل، والاستفادة من الخارج لتحصينه.

تُجمع الدراسات الموثوقة على أنّ سياسة الكويت الخارجيّة مرّت تاريخيّاً بثلاث مراحل رئيسة:

1 – من الاستقلال في عام 1961 حتّى الغزو العراقيّ في عام 1990.

2 – من الغزو حتّى سقوط النظام العراقيّ السابق في عام 2003.

3 – من سقوط النظام العراقيّ حتّى عام 2020.

مع وفاة الأمير الأسبق الشيخ صباح الأحمد في أيلول 2020، تولّى الشيخ نوّاف الأحمد مقاليد الحكم واستمرّ حتّى وفاته نهاية 2023، فتولّى الأمير الحالي الشيخ مشعل الأحمد الحكم.

تكرّست في عهد الشيخ صباح دبلوماسيّة فريدة بالنظر إلى تاريخه الطويل في العمل الدبلوماسي، فهو وزير الخارجية الذي رفع علم الكويت أمام مبنى الأمم المتّحدة في نيويورك في عام 1963، وشغل منصبه لحوالي 4 عقود، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء من 2003 إلى 2006، ثمّ تولّى الإمارة من 2006 إلى 2020.

المثاليّة والواقعيّة

طوال عقود، طُبعت السياسة الخارجيّة باسمه، وكان المهندس الاستراتيجيّ للدبلوماسية الكويتيّة والباني الحقيقيّ لها، لكنّ ذلك لا يعني أنّها كانت سياسة واحدة أو ذات مُحدّدات متطابقة في تلك الفترة، وإنّما كانت أقرب إلى “المدرسة المثاليّة” التي ركّزت على المبادئ والقِيَم، مثل الإيمان بمفاهيم القوميّة العربية، خلال المرحلة الأولى من الاستقلال حتّى الغزو. ثمّ اقتربت في المرحلة الثانية (1990 – 2003) بشكل كبير من “المدرسة الواقعيّة” التي ركّزت على المصلحة الاستراتيجيّة الوطنيّة قبل أن تعود إلى سياسة التوازن والوساطات والاندفاعة الخارجية والحضور الفاعل في المحافل الدوليّة في المرحلة الثالثة (2003 – 2020).

صحيح أنّ كلّ مرحلة واكبتها سياسة خارجيّة تتواءم مع متطلّباتها، سواء في تراجع الرهان على “القوميّة العربية” وتقليل التركيز على البعد العربيّ بعد الغزو، أو من خلال التركيز على الأمن الوطنيّ والدائرة المحلّية والإقليميّة المباشرة، لكنّ المبادئ الأساسيّة كانت ثابتة، وأهمّها:

1 – التوازن مع الأطراف الخارجيّة.

2 – الحياد في النزاعات الإقليميّة والدوليّة.

3 – عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول.

4 – استخدام الأدوات الاقتصاديّة في تحقيق الأهداف الخارجيّة.

الأسوار بين 1760 و2025

عُرفت الكويت عبر التاريخ بأسوارها الثلاثة، التي هُدم آخرها عام 1957 نتيجة التوسّع العمرانيّ، وبقيت بوّاباته الخمس، وتمّ استبداله بما يُعرف حاليّاً بحدائق السور، فيما شُيّد أوّلها في 1760 وكان طوله 750 متراً، وثانيها في 1814 بطول 2,300 متر.

كانت هذه الأسوار من الطين، وبناها أهل الكويت لأغراض دفاعيّة ولحماية أنفسهم ووجودهم وبقائهم في خضمّ النزاعات والحروب حينذاك.

في 2025 يظهر الكثير من القواسم المشتركة بين الماضي والحاضر. منذ 2020 وبشكل أكثر وضوحاً منذ نهاية 2023، باتت السياسة الخارجيّة الكويتيّة أقلّ اندفاعاً وأكثر دقّةً في العمل لتحقيق الأهداف الأساسيّة، وعلى رأسها مصالح الداخل. باتت التنمية الشاملة العنوان الأساس لعهد الشيخ مشعل، مع ما تتطلّبه من “نفض الغبار” عن المشاريع الضخمة، وعلى رأسها ميناء مبارك الكبير الحدوديّ مع العراق، ومعه المنطقة الشمالية التي من شأنها تحويل الكويت إلى مركز ماليّ وتجاريّ عالميّ.

إذا كانت الوساطات في السابق هَدَفت لتعزيز الدور الإقليمي، وآخِرتها وأهمّها في العقد الأخير الوساطة لحلّ الأزمة بين قطر وبعض دول الخليج (2017 – 2021)، يرتكز الحراك الخارجي اليوم على النهوض بالداخل. هذا بالضبط ما يُفسّر انعقاد 26 اجتماعاً حكوميّاً على أعلى مستوى، خلال حوالي 26 أسبوعاً، لمتابعة تنفيذ الاتّفاقات التي وُقّعت مع الصين في أيلول 2023.

يسير بالتوازي تعزيز العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجيّ من خلال اتّفاقات رابح – رابح، من بينها الاتّفاق الضخم الذي وُقّع في 10 آب الماضي مع تحالف سعوديّ لإقامة أكبر محطّة توليد كهرباء في الكويت بتكلفة تصل إلى أكثر من 3 مليارات دولار، والاتّفاقات المتعلّقة بالتعاون في النفط والغاز التي دخلت حيّز التنفيذ قبل أيّام وتشجيع الاستثمار المباشر مع الإمارات، والاتّفاق المتعلّق بمصفاة “الدقم” الضخمة بين الكويت وسلطنة عُمان (تصل طاقتها التكريريّة إلى 255 ألف برميل يوميّاً).

الجبهة الدّاخليّة

يعكس ذلك بوضوح أنّ سياسة الكويت الخارجية في مرحلتها الرابعة باتت تهدف لـ”تحصين الداخل”، لكنّ التحصين اليوم يختلف عن تحصين الأمس. التنمية وتوفير فرص العمل والاستثمار في رأس المال البشريّ لتحقيق التطوّر والنموّ الاقتصاديّ حلّت محلّ الأسوار لأنّها الضمانة لبناء مجتمع قويّ متماسك ودولة متطوّرة قادرة على مواكبة التسارع التكنولوجيّ الهائل ومُنفردة بموقعها الاستراتيجي على ساحل الخليج العربي ومُجتمعة مع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي الذي يبقى المنظّمة الإقليميّة الأهمّ في العالم العربي.

إنّ ربط السياسة الخارجيّة بالمصلحة الداخليّة وفق أساليب ومقاربات جديدة لا يعني ترك الثوابت أو إغفال القضايا الأمّ، وعلى رأسها التضامن الخليجي الكامل مع القضيّة الفلسطينية واستمرار تقديم المساعدات للدول النامية.

في زمن إعادة رسم الخرائط والجروح النازفة في العالم العربي، تسعى الكويت إلى حماية الجبهة الداخلية ومواصلة السياسات المتوازنة، خصوصاً ما يتعلّق بالتعامل مع تحدّيات الجارين الكبيرين، العراق وإيران، بالتآزر والتعاون مع المملكة العربية السعوديّة الجار الأوّل والشقيق الأكبر.

نايف سالم – الكويت

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.