الملثّم… وجه فلسطين
بقلم هشام عليوان
«اساس ميديا»
من أهمّ ابتكارات المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، ليس “الياسين 105″، ولا صاروخ “عيّاش 250″، ولا قنبلة “شواظ”، ولا “عبوة العمل الفدائيّ”، وإن كانت كلّها وأخواتها، وهي من النوع البدائي، قد أرهقت الجيش الإسرائيلي الأحدث تسليحاً في العالم بعد الولايات المتّحدة، على مدى السنتين المنصرمتين. بل قد يكون من أعظم إنجازاتها، تصدير الصوت، وتخليق الرمز، وتجسيد الفكرة، في غموض مقصود هو الأشدّ سطوعاً، وهو ما جعل التأثير الإعلامي أو الدعائيّ للمقاومة أشدّ في الجمهور، وأوسع نطاقاً في العالم على مختلف اتّجاهاته وقوميّاته. “أبو عبيدة”، هو المنتَج الأغلى لكتائب عزّ الدين القسّام، فهو مقاتل منها، وأضحى مبكراً الناطق باسمها، لِما يمتلكه من مواصفات مناسبة.
سار “أبو عبيدة” صعوداً، منذ عقدين من الزمان، وبدأ بالبروز عام 2006 حين أعلن قتل جنديين إسرائيليَّين وأسر جندي ثالث، هو جلعاد شاليط. وستكون هذه العمليّة السبب في عمليّة التبادل بين “حماس” وإسرائيل عام 2011 بعد مفاوضات شاقّة، وخروج مئات الأسرى الفلسطينيّين من السجون الإسرائيلية، ومن بينهم أبو إبراهيم “يحيى السنوار”، الذي سيملأ الفضاء ضجيجاً، حين أطلق “طوفان الأقصى” قبل سنتين، وأثار إعجاب الجماهير بكيفيّة استشهاده العام الماضي.
يقوم أبو عبيدة، بدورين متلازمين، فهو لا يبثّ فقط الخطابات التعبويّة الناريّة إلى الشعب الفلسطيني، وإلى مناصري القضيّة في العالم أجمع وحسب، بل كان منذ البدء، مصدراً رئيساً للمعلومات عن سير المعارك، وصفقات التبادل.
ذاع صيته عام 2014 خلال عمليّة حماس “العصف المأكول”، ردّاً على عمليّة إسرائيل “الجرف الصامد”، مع أنّه كان بمقدور الحركة الاكتفاء بنشر البيانات العسكرية، من دون تعريض أحد كوادرها للملاحقة الدائمة، ومحاولات الاغتيال المتتالية. لكنّها ارتأت أن يكون البيان الإعلامي تعبويّاً في الوقت نفسه، والاستثمار في شخصيّة غامضة، لا يعرف أحد هويّتها الحقيقيّة، ولا تظهر إلّا بلثام يُخفي معالم الوجه تماماً.
كان الاستثمار ناجحاً إلى أبعد الحدود، في عمليّة طوفان الأقصى عام 2023، لأنّ هذه العملية لم تكن كسابقاتها، بل صدعت المنطقة والعالم، واستدعت حرباً إسرائيلية طويلة وغير معهودة في تاريخ الصراع. وعليه، تضخّم دور “الملثّم” إلى مدى كبير جدّاً، وبات هدفاً إسرائيلياً من الدرجة الأولى، أكثر ممّا كان في الجولات القتالية السابقة، منذ سيطرة “حماس” على قطاع غزّة عام 2007.
رمز القضيّة الفلسطينيّة
قد لا يكون ظهور “أبو عبيدة”، بهذا الشكل متقنّعاً بكوفيّة حمراء، (في نسخته الأخيرة)، بعد ارتدائه قناعاً أسود، أو أداؤه اللغويّ والخطابي بهذه الكيفية البلاغية المبهرة، ناتجاً عن وعي تنظيمي مسبق، بضرورة تعويض النقص الكاريزميّ للقيادة الفلسطينية التي خلفت قائدها التاريخي ياسر عرفات، وعدم صعود قيادات فلسطينية كاريزميّة في حركة فتح أو غيرها من الحركات المنضوية في منظّمة التحرير الفلسطينية، ولا حتى في حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، اللتين حاولتا منذ تأسيسهما في ثمانينيّات القرن الماضي الحلول مكان المنظّمة الأمّ.
تعرّضت الحركة الفلسطينية عموماً لاستنزاف قياديّ خطير، وأُخرجت قيادات كثيرة في الحركات الفلسطينية المتنوّعة، من الميدان، إمّا بالاعتقال، أو النفي، أو الاغتيال، ومنها ذات كفايات لغويّة وخطابية لافتة، علاوة على المهارات القيادية والسياسية والتنظيمية والإدارية. لكنّها كلّها لم تكن من طراز “أبو عبيدة” الذي حاز مواصفات نموذجيّة، فكان الأكثر إفصاحاً وإبلاغاً، إن من ناحية سَبْك عباراته بسلاسة، أو من حيث تمكّنه اللغويّ من دون أخطاء نحويّة، إضافةً إلى الصوت الجميل الذي يضاهي صوت “أبي العبد” إسماعيل هنيّة، القائد السابق لحركة حماس.
إلى ذلك لا يُقارَن بالصوت الأجشّ لقائد الكتائب، محمد ضيف، القائد الشبح أيضاً، علاوة على عدم تمكّن ضيف لغويّاً، وافتقاره إلى القدرة الخطابيّة، كما بدا في الخطاب المبثوث له في يوم عمليّة طوفان الأقصى.
أمّا يحيى السنوار، ومع أنّه امتاز بشخصيّة قويّة، وخطاب حادّ، وكاريزما خاصّة، هي كاريزما الحضور بمقابل كاريزما الغياب، لمحمّد ضيف خاصّة، إلّا أنّه لم يكن ليقوم بما قام به “أبو عبيدة”، بالنيابة والوكالة عن كلّ القيادات الفلسطينية، فهو احتمل في نفسه، كاريزما الحضور والغياب معاً. فهو حاضر بشخصه وكلماته، وغائب باسمه وهويّته.
“أبو عبيدة” لا حذيفة الكحلوت
تقول الاستخبارات الإسرائيلية إنّ حذيفة الكحلوت، هو الشخص الحقيقيّ الذي يختبئ خلف لثام “أبو عبيدة”. لكنّ المعلومات عن كحلوت نفسه شحيحة. ومنها أنّه وُلد عام 1985، في مدينة غزّة، وأنّه من بلدة نعليا المحتلّة، وأنّه تخرّج من الجامعة الإسلامية في غزّة، ونال الماجستير عن رسالة بعنوان: “الأرض المقدّسة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام”. لكن يبدو من جزالة ألفاظه، وفصاحة تعابيره، أنّه من قرّاء القرآن وحفّاظه، ومن دارسي العلوم الإسلامية. لا تذكر المعلومات شيئاً عنه له علاقة بالإعلام أو دراسة علومه، أو ممارسة مهنته، أو حتّى كونه داعية أو خطيب جمعة.
الشّخصيّة الافتراضيّة تغلب
هذا الشحّ في المعلومات، دليل إضافي، على أنّ حركة “حماس” نجحت إلى حدّ كبير في صناعة شخصيّة “Avatar”، هي نوع من التجسيد الرمزي لشخصيّة فلسطين، وإحلال إنسان في قالب مخيال جماعي، بات ذا شهرة عالميّة. وبلغ النجاح الفرديّ لـ”أبو عبيدة” نفسه، أن غلبت الشخصيّة الافتراضية على الشخص الحقيقي، فابتلعته، وهمّشته. وحتّى لو ظهرت شخصيّته الحقيقية فيما بعد، فلن يكترث الناس بها.
في التاريخ الأدبيّ تجارب كثيرة من هذا النوع، فمن استعمل اسماً مستعاراً، واشتُهر به، صعُب عليه وعلى المعجبين به، العودة إلى اسمه الحقيقي، أو الإحالة إليه. فأبو عبيدة، سيبقى كذلك، وستظلّ هذه شهرته.
يقول علماء النفس الغربيون، إنّ لبس القناع وإخفاء الوجه أمام عامّة الناس، يُفضي إلى آثار جمّة لدى الملثّم أو المتقنّع، كما لدى المتلقّي. من جهته، يُطلق الملثّم كلّ ما عنده من طاقات، ساتراً انفعالاته الخاصّة في محيّاه عن أعين الناس. أمّا بالنسبة للجمهور، فتختلف انطباعاته لدى رؤية الملثّم وسماع كلمته. منهم من يتوجّس من المجهول المختبئ خلف القناع، ومنهم من يعظّمه ويمجّده باعتبار أنّه من ذوي العزم والقدرة والنضال، بطلٌ يقارع الظلم وينتصر للمظلومين، وهذا مشتهرٌ في القصص البطولية الخيالية الغربية.
غالب الناس، يعتريهم الفضول لمعرفة صاحب القناع، ومعالم الوجه المستتر، وينتظرون بفارغ الصبر خطاباته، وبياناته، وكأنّ ما يُلقيه من كلمات، يأتي من عالم آخر. في نهاية المطاف، أبو عبيدة، هو صوت وحسب، لكنّ أثره في الأثير أضخم من أصوات القنابل الكبيرة التي تتساقط كلّ يوم في القطاع. وهو كان هدفاً لأنّه كذلك، وإسكاته من ضمن مراحل تصفية القضيّة.
هشام عليوان
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.