تآكل السلاح فرصة للبنان وللعرب

4

بقلم نديم قطيش

إثارة الشهية العربية لدعم سياسي واقتصادي أكبر للبنان ليست أمراً سهلاً. لائحة الخيبات الماضية طويلة. ضعف القرار السيادي اللبناني، وزبائنية جزء كبير من النخبة السياسية، وتاريخ طويل من استغلال المساعدات العربية في صراعات الداخل. كل ذلك لا يلغي أن عدم رفع مستوى الاهتمام العربي الآن في ظل المعادلة السياسية الجديدة الناشئة، سيترك فراغات استراتيجية يملأها آخرون، كإيران أو إسرائيل، أو الفوضى.

لنتفق على أنه ليس في المشهد اللبناني ما يوحي بأن ضربة قاضية ستُسقط سلاح «حزب الله» غداً أو تنهي نفوذه المتهالك بين ليلة وضحاها، كما حصل مع نظام الأسد في سوريا.

الأرجح هو مسار تآكل أطول وأكثر تعقيداً. موت بطيء يتعرض له الحزب، ومعه مشاريع عابرة في المشرق كله. والأكيد أن الهيمنة المطلقة انتهت، وأن الكيان الذي بدا عصياً لعقود فقد مقومات سطوته على لبنان، بدءاً من الهزيمة العسكرية المباشرة له ولداعميه.

ولكن المفارقة أن مسار الموت البطيء أكثر خطراً من السقوط المفاجئ. فالفوضى التي يخلِّفها كيان مسلَّح يتآكل من دون أن ينهار، تُنتج في الغالب سنوات من الشلل والابتزاز السياسي والمراوحة الاقتصادية، ومجتمعاً ممزقاً بين الخوف من المستقبل والحنين إلى استقرار مزيَّف، تنتج جميعها تسويات قاتلة.

وعليه، يذكِّرنا التاريخ القريب بأن انتظار أن يحسم لبنان وحده سلاح «حزب الله»، أو أن تتغيَّر موازين القوى الداخلية، أو أن تنكفئ إيران، سرَّع انهيار لبنان، وترك الدولة بلا أدوات ولا حماية.

صحيح أن هناك من يجادل بأن الانكفاء العربي -رغم تكلفته- كان سبباً فيما نشهده اليوم من تغيُّر في المعادلة اللبنانية. فلو لم يُترك الحزب ليُستنزف في مواجهاته وحروبه، لما وصل إلى مرحلة التآكل وفقدان الهيمنة، ولا انتبه الرأي العام إلى من هم حلفاؤه بصدق، ومن هم أعداؤه عن سابق تصور وتصميم. تحمل هذه الحجة كثيراً من الوجاهة؛ غير أن الأهم الآن ليس العودة إلى تبرير الماضي؛ بل البناء على ما تحقق، وتحويل نتائج هذا الاستنزاف إلى فرصة سياسية واقتصادية تُكرِّس حضور الدولة، وتمنع لبنان من السقوط في فراغ قاتل.

ثمة مخاطرة كبرى في خيار الجلوس على ضفة النهر منتظرين اكتمال «موت الحزب» قبل التحرُّك؛ لأن في ذلك تفويتاً غير مبرر للفرصة التي تمنحها مرحلة تآكل «حزب الله». فمسؤولية التدخل المبكر -السياسي والاقتصادي والأمني- كبيرة، وهي وحدها الكفيلة بمنع لبنان من الانزلاق إلى هاوية جديدة، ستكون لها انعكاساتها السلبية جداً على المسارات الإيجابية الناشئة في الإقليم.

فالمسألة في جوهرها ليست لبنانية فقط. التلاشي البطيء لـ«حزب الله» لا ينفصل عما يحدث في سوريا، بخاصة بعد سقوط النظام في دمشق. لا يمكن إعادة هندسة المستقبل السياسي في لبنان من دون أن يكون ذلك جزءاً من إعادة هندسة أوسع لمشرق ما بعد الحرب: سوريا بلا الأسد، العراق في مرحلة إعادة تعريف هويته السياسية، وإيران نفسها تعيش أزمة وضبابية بشأن المستقبل.

لا ينبغي التعامل مع لبنان كجزيرة معزولة؛ بل كقطعة في لوحة إقليمية يعاد رسمها، تستلزم تجاوز ردود الفعل التقليدية إلى استراتيجية شاملة.

لم يكن ممكناً استيلاد المعادلة السياسية القائمة في لبنان اليوم في رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء؛ لولا الدفع السعودي السياسي الحاسم. يتطلب تحصين هذا الإنجاز من الدول العربية مزيداً من دعم الدولة اللبنانية بخطوات تدريجية، كتمويل إعادة بناء الحد الأدنى من قطاع الخدمات، ولا سيما الكهرباء، بشروط واضحة وشفافة، والاستثمار في مؤسستَي الجيش وقوى الأمن كمؤسسات جامعة ومحترفة، ورسم خط متوازٍ مع الحاصل في سوريا الجديدة، لتثبيت معادلة مختلفة في المشرق كله.

يجب أن يُعطى اللبنانيون أيضاً أفقاً سياسياً واقتصادياً واضحاً لمعركتهم. ما ينبغي تفاديه هو تركهم فريسة لفكرة «الاستقرار المزيَّف» الذي طالما فُرض عليهم كهدنة مشروطة في لعبة ابتزاز، يُمنح فيها سلم أهلي مقابل الخضوع للميليشيا.

الموت البطيء لـ«حزب الله» قد يبدو خبراً ساراً لمن أنهكتهم هيمنته، ولكنه يحمل في طياته مخاطر الانهيار الطويل إذا تُرك بلا إدارة ولا رافعة عربية. الخطر الأكبر هو الظن أنه بالإمكان انتظار النهاية من بعيد. فهذه النهاية لن تأتي ضربة واحدة؛ بل هي مسار من التآكل والفوضى، قد يطول كثيراً. البديل والمسرِّع هو أن تُستثمر هذه اللحظة في هندسة سياسية جديدة للبنان، مرتبطة عضوياً بإعادة ترتيب البيت السوري والعراقي، وعلى نحو يقطع الطريق على مشروع الهيمنة الإقليمية من جذوره.

إنها لحظة نادرة في تاريخ المشرق: إما أن تتحول إلى فرصة لبناء نظام إقليمي أكثر توازناً، وإما أن تضيع كما ضاعت فرص كثيرة من قبل.

نديم قطيش

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.