تحوُّل في المزاج الأميركيّ: لا دعم غير مشروط لإسرائيل
بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
شهد المشهد السياسيّ في الولايات المتّحدة تحوّلاً لافتاً في الموقف من الحرب الجارية في غزّة ومن السياسة الأميركيّة تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. بعد نحو عامين من العمليّات العسكرية الكثيفة وما خلّفته من آثار إنسانيّة واسعة، بدأت اتّجاهات الرأي العامّ الأميركيّ تنحو نحو مزيد من التشكُّك في جدوى النهج العسكريّ الإسرائيليّ، وتأييدٍ متزايدٍ لمقاربةٍ سياسيّة وإنسانيّة، مع تكثيف الدعوات إلى ربط الدعم الأميركي بشروط واضحة تتعلّق بحقوق الإنسان والمسار السياسيّ.
تزامن هذا التحوّل مع طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطّته الجديدة المعروفة بـ”الصفقة النهائيّة لغزّة”، التي تهدف إلى وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن وإطلاق إعادة إعمار بإشراف خليجيّ – أميركيّ ووضع إطار تدريجيّ نحو تسوية سياسيّة مشروطة. غير أنّ هذه المبادرة تأتي فيما يتزايد الانقسام في الداخل الأميركيّ حول الموقف من الحرب، سواء بين الأجيال أو داخل الحزبَين، بل حتّى ضمن القاعدة المؤيّدة لترامب.
تراجع تأييد العمليّات العسكريّة
تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى تراجع غير مسبوق في التأييد الشعبي للعمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في غزّة. بحسب استطلاع غالوب في تمّوز 2025، يؤيّد 32% من الأميركيّين فقط الحملة العسكرية مقابل 60% يرفضونها. أمّا استطلاع AP–NORC في أيلول 2025 فأظهر أنّ نحو نصف المستطلَعين يرون أنّ الردّ الإسرائيليّ “ذهب بعيداً جدّاً”.
أظهر استطلاع رويترز/إيبسوس في آب أنّ 58% من الأميركيّين يدعمون اعتراف الأمم المتّحدة بدولة فلسطينيّة. وبيّن مركز بيو في نيسان أنّ 53% يحملون نظرة سلبيّة تجاه إسرائيل، مقابل 42% عام 2022.
أمّا جامعة مريلاند فأشارت في آب إلى أنّ 41% يصفون ما يحدث في غزّة بأنّه “إبادة جماعيّة أو ما يشبهها”. وفي استطلاع Politico/YouGov في تشرين الأوّل، وافق 16% من الفئة العمرية 18–29 عاماً فقط على إدارة ترامب للأزمة، مقابل 44% رفضتها، بينما رأى 61% من اليهود الأميركيّين وفقاً لـ”واشنطن بوست” في الشهر نفسه أنّ إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، و68% يعارضون سياسات نتنياهو.
تعكس هذه الأرقام اتّجاهاً متدرّجاً نحو إعادة تقويم العلاقة مع إسرائيل، وتزايداً في دعم الحلول الدبلوماسيّة والإنسانيّة، مع بروز واضح لعاملَين رئيسيَّين: الانقسام الجيليّ والاصطفاف الحزبيّ.
تحوُّل جيليّ
أحد أبرز ملامح المرحلة الراهنة هو التحوُّل الجيليّ في الرؤية للصراع. تميل الأجيال الشابّة بين 18 و35 عاماً إلى مقاربة قائمة على العدالة وحقوق الإنسان، وتعبّر عن تعاطف متزايد مع المدنيّين الفلسطينيّين، وتشكُّك في جدوى استخدام القوّة المفرطة. في المقابل، يحتفظ كبار السنّ بمستويات أعلى من التأييد لإسرائيل انطلاقاً من اعتبارات أمنيّة وتحالفيّة وتاريخيّة. ويعلل البعض هذا التحوُّل إلى:
– الاعتبارات الإنسانيّة: ارتفاع أعداد الضحايا المدنيّين وتفاقم الأزمة الإنسانيّة في غزّة أسهما في إعادة صياغة الموقف الشعبيّ على أساس القيم الحقوقيّة والإنسانية.
– تأثير وسائل الإعلام الجديدة: انتشار الصور ومقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أتاح وصولاً مباشراً إلى مشاهد الحرب، فقلّ اعتماد الجمهور على الروايات الرسمية.
– التحوُّل الجيليّ: الأجيال الشابّة أقلّ ارتباطاً بالسرديّات التاريخيّة للصراع وأكثر انفتاحاً على مقاربات تقوم على العدالة والمساواة السياسيّة.
– الإرهاق من الحروب الطويلة: تجارب العقدين الماضيَين في العراق وأفغانستان عزّزت الحساسيّة تجاه النزاعات الممتدّة والنتائج غير الحاسمة. أمّا على المستوى الحزبيّ، فقد باتت القضيّة أكثر استقطاباً سياسيّاً. داخل الحزب الديمقراطي، يتقدّم التيّار التقدّمي بمطالبته بوقفٍ فوريٍّ لإطلاق النار وفرض شروط على المساعدات العسكرية، فيما تحاول القيادة الوسطيّة الحفاظ على التوازن بين القاعدة الشابّة والاعتبارات الاستراتيجيّة. أمّا الحزب الجمهوري فما يزال عموماً أكثر دعماً لإسرائيل، لكنّ التماسك القديم بدأ يتآكل مع بروز أصوات شابّة ومحافظة تدعو إلى نهج أكثر تركيزاً على الشأن الداخليّ، وتُبدي تحفّظاً على الانخراط في نزاعات خارجيّة طويلة.
نقاش متزايد داخل “ماغا”
داخل التيّار المؤيّد لترامب، المعروف بشعار “اجعل أميركا عظيمة مجدّداً” (MAGA)، يظهر نقاش داخليّ متزايد. الجناح التقليديّ في “ماغا”، الذي يجمع بين الاعتبارات القوميّة والدينيّة، يرى في إسرائيل حليفاً استراتيجيّاً لا يمكن التراجع عن التحالف معه، ويعتبر دعمها جزءاً من الدفاع عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
في المقابل، يتبنّى الجيل الجديد من مؤيّدي ترامب نظرة أكثر انعزاليّة وبراغماتيّة ترفض الانخراط في نزاعات مكلفة لا ترتبط مباشرة بالأمن القوميّ الأميركيّ، وتدعو إلى ربط الدعم بنتائج ملموسة وإنسانيّة. يعكس هذا التباين تراجع مفهوم “الدعم غير المشروط” حتّى داخل القاعدة المحافظة، ويضع ترامب أمام تحدّي الموازنة بين التيّار التقليدي الموالي لإسرائيل والناخبين الشباب الذين يفضّلون التركيز على الداخل.
تحدّيات داخليّة وخارجيّة
على الرغم من طموحها، تواجه خطّة ترامب تحدّيات داخليّة وخارجيّة، أبرزها انقسام الرأي العام الأميركي، وتباين مواقف الأطراف الإقليمية، ورفض فصائل فلسطينيّة نزع السلاح قبل تحقيق مكاسب سياسيّة ملموسة.
في الكونغرس، يتزايد عدد المشرّعين، خصوصاً من الحزب الديمقراطي، الذين يدعون إلى ربط المساعدات العسكريّة لإسرائيل بشروط تتعلّق بحقوق المدنيّين. يعكس هذا التوجّه الضغوط المتصاعدة من القاعدة الشعبيّة، وقد يؤدّي إلى تغيّر تدريجيّ في لغة التشريعات والرقابة على المساعدات.
في الحملات الانتخابيّة، بات الموقف من حرب غزّة أحد عوامل الاختبار السياسيّ، خاصة للمرشّحين في الدوائر ذات الكثافة الشبابيّة أو الأقليّات، حيث يميل الناخبون إلى تأييد خطاب أكثر توازناً بين الأمن والاعتبارات الإنسانيّة. أمّا داخل الحزب الجمهوري فقد يصبح الخلاف بين الجناحين التقليدي والانعزاليّ عنصراً مؤثّراً في صياغة برامج المرشّحين.
من المرجّح أن يترك هذا التحوُّل أثراً ملموساً على انتخابات التجديد النصفيّ المقبلة. في الدوائر التنافسيّة، قد يتحوّل الموقف من الحرب إلى عامل حاسم في تحديد مصير بعض المقاعد، خاصّة بين الديمقراطيّين المعتدلين الذين يواجهون ضغوطاً من قواعدهم التقدّميّة. الشباب والمستقلّون، الذين يُظهرون حساسيّة أكبر تجاه الأبعاد الإنسانيّة، قد يغيّرون اتّجاهات التصويت في بعض الولايات المتأرجحة.
التّشدّد ينفّر الشّباب
أمّا داخل الحزب الجمهوري فقد يؤدّي الخطاب المتشدّد المؤيّد لإسرائيل إلى تحشيد القاعدة التقليديّة، لكنّه قد ينفّر جزءاً من الشباب المحافظين الذين يميلون إلى تقليص الانخراط في المشاكل والنزاعات الخارجيّة. ويُتوقّع أن تلعب جماعات الضغط دوراً متزايداً عبر تمويل الحملات والإعلانات في الدوائر الساخنة. مع أنّ القضايا الاقتصاديّة تبقى عادة العامل الأهمّ في الانتخابات النصفيّة، إلّا أنّ استمرار الحرب وما يرافقه من جدل سياسيّ قد يمنح السياسة الخارجيّة وزناً غير مسبوق في بعض المناطق.
يفتح التحوُّل في المزاج الأميركيّ المجال أمام مقاربات دبلوماسيّة متعدّدة الأطراف تشارك فيها دول عربيّة وأوروبيّة تسعى إلى استثمار تزايد التأييد الشعبي لوقف إطلاق النار ودعم المسار السياسيّ. وقد تجد واشنطن نفسها مضطرّة إلى اعتماد مقاربة أكثر توازناً تواكب التغيّر في الداخل وتعيد صياغة دورها في التسويات المقبلة.
يبدو أنّ التحالف الأميركي – الإسرائيليّ لم يعُد قائماً على الإجماع الحزبيّ السابق، بل أصبح ملفّاً جدليّاً يعكس الانقسامات داخل المجتمع الأميركيّ نفسه. في هذا السياق، تمثّل خطّة ترامب اختباراً مزدوجاً لقدرة الإدارة على الاستجابة للمزاج الشعبيّ المتغيّر، ولإمكان تحويل هذا التوازن الداخليّ إلى سياسة خارجيّة أكثر واقعيّة وتكيّفاً مع المتغيّرات.
موفق حرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.