ترامب مع إيران: من الرّدع إلى الدّبلوماسيّة

5

بقلم موفق حرب

«أساس ميديا»

بينما كان دونالد ترامب يتحدّث عن إمكان أن تصبح إيران جزءاً من “هندسة سلام جديدة” في الشرق الأوسط، ظنّ البعض أنّ كلامه عبارة دعائيّة من رئيس يحبّ العناوين الكبيرة وحسب. لكن خلف هذا الخطاب الحادّ تقف رؤية محسوبة تمزج بين الضغط العسكريّ والانفتاح الدبلوماسيّ، في محاولة لإعادة تشكيل سلوك طهران ودورها النوويّ والإقليميّ.

تشير آخر التقديرات الأميركية، استناداً إلى الضربات المشتركة الأميركية والإسرائيلية ضدّ مواقع إيرانيّة ووكلائها، إلى أنّ طهران تعيد حساباتها. إيران التي كانت تُوصف لسنوات بأنّها المصدر الأوّل لعدم الاستقرار في المنطقة، تبدو اليوم أكثر عزلة وضعفاً، وربّما، كما يرى ترامب، أكثر ميلاً إلى البراغماتيّة. تعزّزت هذه القناعة مع انطلاق مفاوضات أميركيّة– إيرانيّة غير معلنة في نيسان 2025، هدفها وضع إطار لاتّفاق “سلام نوويّ” جديد.

يعتمد ترامب في رؤيته على فرضيّة أنّ القوّة العسكرية يمكن أن تحقّق ما فشلت فيه الدبلوماسيّة وحدها.

تشير التقديرات الاستخباريّة الأميركية بعد الضربات الإسرائيلية الأميركيّة للمنشآت النوويّة الأساسيّة، إلى أنّ تلك العمليّات أرجأت برنامج إيران النووي لأشهر، لكنّها لم تدمّره بالكامل. مع ذلك، أحدثت أثراً نفسيّاً وسياسيّاً كبيراً داخل طهران، حيث بدأ القادة الإيرانيون يراجعون حساباتهم الإقليميّة.

تكبّد “الحزب”، أبرز أذرع إيران في المنطقة، خسائر فادحة بعد تفكيك خطوط إمداده عبر سوريا، وإن حاول تعويض ذلك عبر توزيع أكثر من مليار دولار على عائلات لبنانيّة متضرّرة بعد وقف إطلاق النار. أمّا انهيار نظام بشّار الأسد في كانون الأوّل 2024 فشكّل ضربة استراتيجيّة قاسية لطهران، إذ خسرت معبرها الحيويّ نحو المتوسّط.

ربّما الضربة الأقسى لإيران كانت موقف روسيا المتردّد خلال الهجمات. موسكو التي كانت تُعدّ الحليف الأوثق اكتفت بتصريحات دبلوماسيّة باهتة، وامتنعت عن اعتراض الصواريخ الإسرائيليّة. بالنسبة للقيادة الإيرانية، كان ذلك “طعنة في الظهر” أكّدت أنّ الاعتماد على موسكو لم يعُد مضموناً.

في واشنطن، يرى ترامب وفريقه أنّ هذه التطوّرات خلقت ما يسمّونه “ديناميكيّة إيجابيّة”، أي بيئة تجبر إيران على التفاوض من موقع ضعف. بعض مزاعم ترامب عن “تدمير كامل” للمنشآت النوويّة مبالغ فيها، إلّا أنّ التأثير المعنويّ والسياسي كان فعليّاً: إيران باتت في الزاوية.

العامل الرّوسيّ: تحالف متصدّع

تحوّل التوتّر بين موسكو وطهران إلى أحد أكثر الملفّات إغفالاً في التحليل الإقليميّ. بعد سنوات من الشراكة في مواجهة الغرب، بدأت الخلافات تظهر إلى العلن.

اتّهم وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف نظيره الإيراني السابق محمد جواد ظريف بـ”سوء إدارة” مفاوضات الاتّفاق النوويّ عام 2015، معتبراً أنّ آليّة الزناد أو “العودة التلقائيّة للعقوبات” كانت “فخّاً” قانونيّاً من قبل الغرب. ردّ ظريف بقسوة، واصفاً تصريحات لافروف بـ”الكاذبة”، ومتّهماً موسكو بتعمّد تعطيل التفاهم بين إيران والغرب.

كشفت هذه السجالات عن عمق الشكوك المتبادلة. ظريف ألمح مراراً إلى أنّ روسيا استخدمت الملفّ النوويّ للابتزاز السياسي والإبقاء على إيران تحت وصايتها. أمّا قادة “الحرس الثوري” فاتّهموا موسكو بـ”الخيانة التكتيكيّة” لأنّها لم تتحرّك للدفاع عن إيران خلال الضربات الإسرائيلية والأميركية.

من المفارقات أنّ روسيا وإيران قد عمّقتا شراكتهما الاستراتيجيّة من خلال ميثاق جديد لمدّة 20 عاماً يشمل تعاوناً عسكريّاً ونفطيّاً وصفقات مبادلة للالتفاف على العقوبات، مع عرض بوتين التوسّط في محادثات أميركية- إيرانيّة، أقفل الشقّ الذي توقّعت واشنطن استغلاله. تسلّط هذه الأحداث الضوء على التوازن الهشّ بين الضغط والتقدّم، إذ قد تطيل مخاطر التصعيد من الانسداد بدلاً من الإجبار على إحداث اختراق.

بالنسبة لترامب، يمثّل هذا الشرخ الروسيّ– الإيرانيّ فرصة استراتيجيّة ثمينة. كلّما ضعفت ثقة طهران بحليفها الروسيّ زادت قابليّتها للضغوط الأميركيّة.

التّقويم الأبيض: رؤية ترامب لما بعد العاصفة

في أروقة واشنطن يُطلق مساعدو ترامب على قراءته للوضع الإيراني اسم “التقويم الأبيض”، ويرتكز على أربع قناعات أساسيّة:

1- الردع العسكريّ ناجح: ألحقت الضربات أضراراً فعليّة بقدرات إيران النوويّة وأثبتت جدوى القوّة.

2- الوكلاء أضعف: خسر “الحزب” والحوثيّون وميليشيات سوريا والعراق كثيراً من قدراتهم.

3- التحالفات تتفكّك: سقوط النظام السوريّ وتوتّر العلاقة مع روسيا قلّصا مساحة المناورة الإيرانيّة.

4- التفاوض حتميّ: مع تراجع النفوذ وازدياد الضغوط الداخلية، لا مفرّ أمام طهران من البحث عن تسوية.

هذه المقاربة يمكن تلخيصها بشعار “الانتصار أوّلاً… ثمّ التفاوض”، في مقابل النهج الذي تبنّته إدارة باراك أوباما، حيث كانت الدبلوماسية تسبق الردع.

لكنّ منتقدي ترامب يرون أنّ هذا النهج محفوف بالمخاطر القانونيّة والسياسيّة، وقد يدفع المنطقة إلى مزيد من الفوضى.

تُبرز التطوّرات الأخيرة التحدّيات التي تواجه دبلوماسيّة ترامب القسريّة مع إيران. إذ مدّ رئيس الولايات المتّحدة في خطابه أمام الكنيست الإسرائيليّة يوم 13 تشرين الأوّل “يد الصداقة” وحثّ طهران على نبذ الإرهاب والاعتراف بإسرائيل من أجل صفقة تاريخيّة محتملة. لكنّ ذلك قوبل برفض سريع من مسؤولين إيرانيّين وصفوا الضربات الأميركيّة بأنّها “سلوك إجراميّ” ورفضوا الدعوات إلى المشاركة في القمم الإقليميّة.

يزيد من تعقيد هذا الجمود إعادة تفعيل العقوبات الأمميّة التي أعادت فرض حظر الأسلحة والقيود على تخصيب اليورانيوم، وهو ما يعزّز من تحدّي إيران من خلال قوانين داخليّة جديدة بشأن الطائرات المسيّرة والتجسّس، في حين تقدّر مراكز الأبحاث أنّ فرص نزع السلاح النوويّ الكامل تبقى منخفضة دون حوافز متبادلة.

في غضون ذلك، أدّى وقف إطلاق النار في غزّة يوم  9 تشرين الأوّل، الذي سهّلته خطّة ترامب ذات العشرين نقطة وإفراج “حماس” عن الرهائن، إلى تعزيز استقرار إقليميّ مؤقّت وعلاقات عربية- إسرائيليّة تحت اتّفاقات إبراهيم الموسّعة. مع ذلك يواصل وكلاء إيران مثل “الحزب” تجديد قواهم وسط هذه التغييرات.

حتّى أنصار ترامب يقرّون بأنّ النظام الإيراني أثبت مراراً قدرته على الصمود. برنامج طهران النووي، المنتشر في مواقع محصّنة عدّة، لا يزال يعمل جزئيّاً. تشير التقارير إلى استمرار إنتاج أجهزة الطرد المركزي واحتفاظ إيران بمخزون يورانيوم مخصّب بنسبة 60%.

في الداخل، يهيمن “الحرس الثوريّ” على مفاصل الأمن والسياسة، ويعتبر الضغوط الأميركية تهديداً وجوديّاً لا بدّ من مواجهته. يخشى مراقبون أن تؤدّي زيادة الضغط إلى تقوية المتشدّدين بدل إضعافهم.

إلى ذلك حذّر اقتصاديّون من تداعيات العقوبات والتوتّر على الأسواق، إذ “تجاوز سعر برميل النفط 80 دولاراً  مطلع هذا العام” قبل أن يعود للاستقرار.

من العزلة إلى محاولة الاندماج

تتوافق مقاربة ترامب مع تحوّلات أوسع في الشرق الأوسط. الدول العربية التي كانت تتحفّظ على العلاقات مع إسرائيل، باتت تنخرط في أطر تعاون جديدة ضمن “الاتّفاق النهائيّ لغزّة”. أمّا العواصم الخليجيّة، المتعبة من سنوات التوتّر، فتبحث عن توازن إقليميّ جديد.

في هذا المشهد، قد تُضطرّ إيران بدافع البراغماتيّة إلى تبنّي سياسة أكثر اعتدالاً، سواء لحماية اقتصادها أو لاستعادة بعض نفوذها الدبلوماسيّ.

إن نجحت المقاربة فسيعتبرها ترامب دليلاً على أنّ “السلام يمكن أن يولد من رحم القوّة”. أمّا إذا فشلت فقد تعود المنطقة إلى دوّامة المواجهات والحروب بالوكالة والسباق النوويّ الخفيّ.

تشير تجربة العقود الماضية إلى أنّ العقوبات والضربات قد تعزّز نزعة المقاومة داخل النظام الإيرانيّ أكثر ممّا تضعفه. مع ذلك، تغيّر ميزان القوى: إيران خسرت حلفاءها، وتراجعت مكانتها، وبدأت تواجه أسئلة داخليّة عن جدوى مغامراتها الإقليميّة.

ليست مقامرة ترامب مع إيران اختباراً لإرادة طهران فحسب، بل امتحان لمدى قدرة واشنطن على تحويل القوّة إلى سياسة، والردع إلى استقرار أو سلام.

موفق حرب

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.